أكتب إليك بعد أن تكالبت على روحى الهموم، وقلبى الشجون، وضميرى المتاهة،وعقلى الندامة إذ كنت اندهش من تخاريف المجانين، وهذيان المجاذيب، وتأوهات الأشقياء بحظهم العاثر، ثم أصبحت الآن واحداً منهم، ولا أجد خجلا فى أن أقول ذلك، ولِمَ الخجل, والإنسان أضعف من الضعف, وأهون من الهوان, فأقسى ما فى الحياة أن تكتشف بعد فوات الأوان أنك ولجتها, وأوشكت على الخروج منها صفر اليدين، لأنك حرثت الماء، وزرعت بذورك فى بحر لجاج، فحصدت أشواكا وأحزانا كنت تتوقعها وردا وسعادة.. إن هذه هى حالى وأنا على مشارف الخمسين بعد شهور.
وأعود بك إلى البداية إذ نشأت ابنا وحيدا من زوجة ثالثة وأخيرة لأب أسطورى من أثرياء الريف، لديه عدد كبير من الأبناء, وترتيبى بينهم الأخير، وكان يرحمه الله واسع الثراء، شديد الوسامة والرشاقة والثقافة والكرم والجود والاعتداد بكرامته وكبريائه، عنيدا وحنونا فى آن واحد، قوى الشخصية ومهابا من الجميع, ولم تتح الفرصة لأخوتى للقرب كثيراً منه لسببين, الأول شخصيته المهيبة، والثانى أن كل واحد فيهم كان ينتقل منذ أولى ابتدائى للإقامة فى عاصمة المحافظة التى نعيش فيها وننتمى إليها للدراسة، لعدم وجود مدارس فى منطقتنا وقتها، ثم يتوجه إلى القاهرة لإكمال دراسته، بينما اختلف الأمر كلياً معى بعد إنشاء العديد من المدارس حولنا, فعايشته لحظة بلحظة، ومازحته ولاطفته، وجمعنا حب لا يوصف، فلقد أحببته كما لم يحب ابن أباه، خاصة وأنا أسمع من الآخرين ما يشبه الأساطير عن كرمه وشهامته وجرأته، وكم شاهدته وهو ينفق مبالغ طائلة على تنظيم جلسة عرفية يحقن بها دما, أو يئد فتنة، أو يتكفل بأعباء زواج يتيمة وعلاج فقير.
وأذكر في إحدى الأمسيات أننى بينما كنت أستذكر دروسى فى المرحلة الإعدادية، سمعت طرقات على الباب، وعندما فتحته، وجدت أمامى أحد وزراء الحكومة آنذاك وبصحبته شقيقه واثنان آخران، وكان الوزير قد قرر خوض انتخابات «مجلس الشعب» فى دائرتنا، وبعد تبادل الترحيب والمجاملات، قال شقيق الوزير مخاطباً أبى: نحن نعرف قدرك، ولذلك جاء الوزير يطلب دعمك ومساندتك، فرد أبي مباشرة وبلا تفكير: لست صغيراً حتى أعدكم وأخلف وعدى، والوزير أكبر من أن أكذب عليه، فأنتم تعلمون علاقتى وصداقتى بالمرشح المنافس، فهو بمثابة أخ لى، وهنا قاطعه شقيق الوزير فى لهجة لا تخلو من التهديد: «ولكنك رجل ثرى ولك مصالح، ومع الوزير تكسب، ومع الآخر ستخسر بالتأكيد»، وعندها انتفض أبى واقفاً وانفعل قائلاً: «أنتم جايين تهددونى فى بيتى، اتفضلوا اخرجوا بره، وليكن ما يكون»، فتكهرب الجو وتدخل الحضور للتهدئة، وقال الوزير: «لقد دخلت منزلك وأنا أحترمك، والآن أخرج منه وأنا أكثر احتراما لك، لا تتخل عن صديقك الذى أحسده عليك، وأنا تحت أمرك فى أى وقت وأى شىء».
ومازلت أذكر موقفا حدث فى موسم الحصاد عندما كنت فى المرحلة الثانوية, حيث كان أبى يشرف على تجنيب الأرز المخصص للزكاة والصدقات، ووجدت أن ثمنه يقدر بعدة ألوف من الجنيهات ، فقلت له: زكاة الحصاد يمكن أن تشترى لى سيارة 128، فلنؤجل الزكاة إلى الحصاد المقبل، فنظر إلىّ ملياً, وقال بحنان وصوت عميق: «روح يابنى، ربنا لايجعلك تقطعه ولا تأخده».
فى هذا المناخ وهذه البيئة نشأت، مستمداً من قوة أبى المعنوية والمادية طاقة كبرى تحركنى باندفاع هائل بحثاً عن الحق والخير والجمال فى المعانى والأشياء بقلب أخضر طيب, وشجاعة وإقدام, وقرأت كثيرا فى الأديان السماوية والأرضية, وآداب الدنيا ومأثورات التاريخ, وسير العظماء والمصلحين والقادة، والجغرافيا والاقتصاد وكل شىء، وكونت مع نهاية الثانوية العامة قناعاتى, «مسلم بالإيمان وليس بالميلاد»، مبهور بعظمة القرآن ورحابة وإنسانية وتسامح الإسلام، ساخط على تخلف المسلمين, وتشويه تيارات الإسلام السياسى حقيقة الدين القويم، مؤمن بالعدالة الاجتماعية، قومى عروبى، مثالى أفلاطونى, والتحقت بكلية الحقوق فى النصف الثانى من ثمانينيات القرن المنصرم, وكانت فى ذلك الوقت تموج بالسياسة والثقافة، وانطلقت مفعما بالحركة، وشاركت زملائى أنشطتهم من تنظيم معرض سياسى أو أمسية أدبية أو عمل حزبى، وكان قلبى وبيتى مفتوحين للجميع، بفضل كرم أبى الذى كان يمنحنى مصروفاً يكفى لإعالة عشر أسر، ولم أكن أحضر المحاضرات أو أفتح كتاباً معظم شهور السنة, لكنى أتفرغ تماماً للمذاكرة ثمانى عشرة ساعة يومياً خلال شهر الامتحانات والشهر الذى يسبقها, وبعدها أحقق النجاح, ومرت سنوات الجامعة سريعا, وما إن أديت امتحانات الليسانس حتى رحل أبى فجأة, فطار النوم من عينىّ ثلاثة أسابيع وظللت شهورا زاهدا فى كل شىء حتى الطعام, فلم أتناول سوى لقيمات قليلة, وفقدت تسعة عشر كيلو جراما من وزنى، ثم انهرت فى بكاء لم يتوقف أياما طويلة. ومرت سنوات وأنا أبحث عن سلامى النفسى وهدوئى وسكينتى، وذاتى, ولم أرد عملاً لمجرد الوظيفة، وإنما سعيت إلى عمل أمارسه بسعادة، وأن أفتش عن زوجة تحتوى جموحى وبراءتى بحنانها الدافق، واتجهت إلى الدراسات العليا، واصطدمت بالمشرف على بحثى إذ أراد أن يفرض علىّ آراءه السياسية المناقضة لقناعاتى، وتصادمنا بقوة، وتحديته بفجاجة تصورتها شجاعة، وصمم على التنكيل بى، ولم أجد بدا من أن أهجر الماجستير إلى غير رجعة, وعملت محامياً تحت التمرين، ولكن هالنى الأمر، ولم أستطع الكذب، حيث تأبى كرامتى أن أقول ما أعلمه زوراً وبهتاناً، كما أننى لا أستطيع استغلال مواهبى لإقناع الناس بأن الصفيح ذهب، ومن هنا كانت هجرتى الثانية، تاركا هذا المجال, ثم اشتركت بحصة صغيرة فى مشروع ضخم، تعثر بفعل إدارة الشركاء أصحاب المساهمات الكبيرة, ووجدتنى أعمل موظفا حكوميا, وتزوجت زواجاً بدأ صالونياً ثم تحول إلى حب، وصرت كأبطال الروايات والأساطير أبحث عن السعادة فى العمل والزواج ثم تبين لى أننى أردت شيئا لم أحط بكينونته ومضمونه، وكأنني أسير «نداهة» لا أعرف لغتها، فهجرت الروتين والبيروقراطية بعد ست سنوات من الوظيفة الحكومية, واكتشفت بعد دورة كاملة حول ذاتى وتجارب عدة خضتها فى أعمال كثيرة أن سعادتى فى «البحث عن المتاعب»، وهكذا بدأت مهنتى الأخيرة مع بدايات القرن الحالى, وبرغم الصعاب والتحديات, وقد جدتها العمل الذى يجلب لى السعادة, وأنشأت مؤسسة خاصة بى, وجاءت الفاجعة الجديدة بأننى مولود بعيب يمنعنى من الإنجاب, وأبلغنى الأطباء بأن فرصتى الوحيدة فى «الحقن المجهرى»، وبرغم أننى لم أكن صاحب عقلية ريفية تؤمن بالعزوة والكثرة، وأعى تماما أن الإنسان بعمله وخلقه ودوره في الحياة, إلا أن «التيمة الأدبية» التي دائما ما كانت تعاقب الأشرار بالعقم وانعدام المستقبل والامتداد، آلمتنى كثيرا، ولذلك دفعتنى دموع أمى العجوز، وحزن زوجتى الذى حاولت أن تخفيه إلى أن أتخذ قراراً سريعاً ببيع «فيلتى» فى أجمل مواقع شاطئ البحر المتوسط بثمن بخس لأن سوق العقارات وقتها كانت راكدة, أما سعرها حالياً فيبلغ عدة ملايين من الجنيهات، وخضت بثمنها عدة عمليات حقن مهجرى لم يكتمل نجاحها, واشتريت شقة في القاهرة، واستقررت بها, وأنفقت الكثير على عمليات جراحية لوالدتى، ولم أبخل بما يحتمه الواجب ومقتضيات الكرم تجاه الآخرين.
وجرت في النهر مياه كثيرة, وبعت الأراضى التى أملكها, وفى نهاية عام 2010، خضت انتخابات مجلس الشعب، وكنت ضمن من رفعوا شعارات ضد الفساد والتوريث وتزاوج السلطة والثروة، وللأسف لم يحالفنى التوفيق لأسباب يعرفها الجميع عن انتخابات تلك الفترة. وبعدها اندلعت ثورة 25 يناير عام 2011 وبخلاف ما توقعته أغلقت مؤسستى, ووجدتنى بلا عمل وعرضت على زوجتى الانفصال لعلها تنجب من آخر لكنها رفضت ولكن مع ضغوط الحياة اكتملت المأساة بانفصالى عنها بعد زواج دام 13 عاماً، ولا داعى للخوض فى تفاصيل ما جرى بيننا, فلقد ارتكب كلانا أخطاء عديدة!.
وبعدها قضيت شهوراً وحيداً حزيناً مع والدتى التى تفاقم مرضها, وفقدت بصرها تماما، واستجابة لدموعها وإلحاح أشقائى تزوجت سيدة مطلقة لديها طفلة صغيرة، أحببتها كابنة من دمى، وأصبحناً رجلاً وثلاث سيدات ينتمين لثلاثة أجيال مختلفة, الجدة والزوجة والابنة، وطلبت من الله أن يرزقنى الستر, ليس من أجلى، فلم أعد طامحاً أو طامعاً فى شىء، وإنما لأجل سيدة عجوز كفيفة، وأخرى شابة تتطلع إلى حياة مستقرة, وثالثة طفلة ليس لها ذنب في شىء. وعشت ثلاث سنوات بالقليل من العمل والمال والكثير من الصبر بين اليأس والرجاء والقنوط والأمل.
ومنذ عامين التحقت بفرع مؤسسة عربية عريقة في القاهرة، وبدأت انفراجة جديدة فى حياتى، واستقرار إلى حد بعيد، وسددت ديونى، ووفرت الرعاية الطبية الجيدة لأمى, ولأننى «عبيط القرية والمدينة أيضا»، ولا أستفيد من أخطائى وتجاربى، فإننى خضت انتخابات مجلس النواب الأخيرة, وكانت خيبتى فيها لا توصف, وخرجت منها زاهداً كل شىء راغباً فى العزلة عن الجميع، أجلد ذاتى، وأقضى أياماً طويلة وحيدا، وطعامى لقيمات وقطعة جبن، وغادرت والدتى منزلى إلى منزل الأسرة لضيقها من «الحبسة» فى الشقة، وانتقلت زوجتى إلى منزل أهلها لشظف العيش, ولم أعد أنفق سوى جنيهات قليلة، وأوجه راتبى إلى تسديد ديونى حتى كدت أنتهى منها، كما أدخلت سيارتى للصيانة بعد أن ظلت شهورا «مركونة» لحاجتها إلى قطع غيار عديدة.
وذات يوم جاءتنى مكالمة بأن والدتى سقطت على الأرض فأخذتها إلى الطبيب فأكد حاجتها إلى جراحة عاجلة، فانفطر قلبى عليها، وهممت لإجرائها لها لكن وياللمأساة فقد وجدتنى مفلسا تماماً، وفكرت فى الاتصال ببعض الأصدقاء لأستدين منهم المبلغ المطلوب، وبرغم أنهم يعرفون حالى لم يعرض أحدهم علىّ المساعدة من تلقاء نفسه, ولم استطع مد يدى لأحدهم, وفضّلت الموت على ذلك. وبرغم الآلام والمآسى التى تحملتها من قبل, وكنت أتجاوزها بالعزيمة والإصرار فإننى ولأول مرة أشعر بالعجز والضآلة، بل وبـ «الحقارة»، فأنا من كان ينفق قبل ربع قرن ألف جنيه يومياً، عندما أكون بالقاهرة لمتابعة معرض الكتاب أو مهرجان القاهرة السينمائى, أعجز الآن عن توفير بضعة آلاف فى هذه الملمة الحزينة لإنقاذ أمى! ولأن المآسى لا تأتى فرادى, فإن المؤسسة العربية العريقة أبلغتنى قرارها بإغلاق فرع القاهرة بعد أيام، لأعود مجدداً إلى التأرجح بين اليأس والرجاء.
إننى لا أبرئ نفسى، ولا أبحث عن شماعات، فأنا صانع مأساتى، ولا أطلب شيئاً أو موئلاً، فبئس «الطالب والمطلوب» أو «اللاجئ لغير الله»، إذ تكفينى عشرة جنيهات يومياً, ثمن رغيفين وقطعتى جبن وثمانى سجائر, هى حاجاتى اليومية، ولكنى أبحث عن الحكمة وراء الأحداث لعلى أفهمها، وحينها سأقبلها, وتقر نفسى الحائرة الملتاعة من عبثية منطقها، فلماذا يعاقب إنسان قبل ميلاده، ويولد بـ «عيب خلقى»، وإذا كنت أنا «الشرير العالمى», فأين رفق الأقدار بعجوز كفيفة، وسيدة أهل للعون، وطفلة لم ترتكب جرماً، ولماذا لا تغفر الأقدار لعزيز قوم ذل، وكريم تعسر وتعثر، ولماذا أصبحت قلوب الأصدقاء كالحجر الصوان؟.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
فى الحقيقة هناك تناقض واضح بين حديثك عن المبادئ التى تقول إنك تربيت عليها, وتساؤلاتك الاستنكارية عن القدر وعقاب الإنسان قبل مولده, فالمسلم الذى يتعمق فى الدين ويكون إسلامه ليس بالميلاد والاسم, وإنما عن يقين تام بما جاء فى القرآن العظيم, وما أمرنا الله به على لسان رسوله الكريم لا يمكن أن يعترض أبدا على مشيئته سبحانه وتعالى بحرمانه من الإنجاب نتيجة ما يسميه «عيبا خلقيا»..واقرأ قوله تعالى: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) [ الشورى], ولم تكتف بذلك بل إنك تسخر من القدر لما حدث لوالدتك التى اختبرها الله بكف بصرها وحاجتها إلى جراحة, وتتساءل كيف لم يترفق بها؟, بينما تتجاهل ما يعانيه الملايين من أمراض, وما حدث للأنبياء والرسل على مر العصور الذين ابتلاهم المولى عز وجل بالأمراض وشظف العيش, ومع ذلك عاشوا سعداء, لأنهم رضوا بنصيبهم من الدنيا, وتطلعوا إلى مغفرة المولى عز وجل ورضوانه, فطابت نفوسهم, وأدركوا أن مع العسر يسرا, ولا شك أن وعد الله فى ذلك حق, وعلينا دائما أن نقتدى بأنبيائه فى طلب الوسائل للخلاص مما نعانيه, وإذا آمنت حقا بأن هناك يسرا مع العسر, فاعلم أن مع التعب فى العمل النافع راحة, وإذا فرغت منه انتقل إلى عمل آخر, وضع نصب عينيك الله فى كل أعمالك لقوله تعالى «فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ» [الشرح 7، 8].
لقد كان الأجدر بك وأنت الذى بحثت وتيقنت من كل شىء عن الإسلام أن تتأمل حقيقة الحياة التى جُبل الإنسان على التعلق بها, فلو أعدت قراءة القرآن الكريم لوجدت فيه منهجا تربويا متكاملا يقوم على محورين, الأول أن الحياة امتحان دائم, وأن كل ما يراه المرء حوله طوال حياته من مباهج وملذات ومتع, أو من مآسى وجراح وكوارث, ليس إلا أياما قليلة سرعان ما تنقضى, وستوضع بكل ما تحتويه فى الميزان لتحدد مصيره الأبدى , فقال تعالى « وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» [العنكبوت 64].. والمحور الثانى مكمل الأول إذ يعمل على إعادة التوازن لهذه الرؤية, فلا تهون الحياة فى نظر الإنسان, ولا ينصرف عن إعمار الأرض بالعلم والعمل إلى التقشف وانتظار الموت, فقال الحق تبارك وتعالى «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ» [هود 61], وقوله «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» [القصص77], وقوله أيضا «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» [النحل 97], وقال رسول الله فى خطبة الوداع «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا, فى بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم», وبهذه الرؤية المتكاملة تغدو الحياة كنزا ثمينا يجب استثماره, فهى وإن كانت جسرا إلى السعادة الأبدية فإننا مأمورون بعدم التفريط فيها لقدسيتها وقيمتها العظيمة عند الله, وفى ذلك يقول سبحانه وتعالى «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة 32].. أما المباهج وألوان المتع التى تصادف الإنسان فلا تُكره لذاتها إذا أحسن استخدامها لقوله عز وجل « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف 32], وبهذا الفهم يخوض المسلم غمار الحياة بملذاتها واثق الخطى بعد أن أيقن أن كل ما ملكه فيها غير باق, فهو إذن فى سعى دائم للاستمتاع بها دون إسراف, مع إيمان داخلى بأن ما امتلكه منها فى قبضة يده, وليس فى قلبه, لقوله تعالى «لكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور» [الحديد 23], وهنا تكمن السعادة الحقيقية, فهى ليست فى المال, ولا الأولاد, وإنما فى الرضا بقضاء الله وقدره, هذا هو الإيمان العميق الذى كنت أحسب أنك توصلت إليه بقراءاتك المتعمقة فى القرآن الكريم كما قلت فى بداية رسالتك, فهناك الملايين الذين يعانون العقم, ولم يصل معظمهم إلى حالة السخط التى أنت عليها الآن, فلك أن تعلم أن خمس عشرة فى المائة من المتزوجين فى العالم يعانون العقم, وتصل مسئولية الرجال فى ذلك إلى قرابة خمسين فى المائة, ويتعامل الكثيرون منهم مع واقعهم دون ضجر, ولم يسخطوا كما تسخط على إرادة الله, وأما مرض والدتك, وشظف العيش الذى تعانيه بعد الحياة الرغدة التى كنت تنعم بها, فهو من قدر الله لقوله عز وجل «قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» [التوبة 51].. ولاحظ هنا كلمة لنا, فالشىء النافع للإنسان يكون له, وليس عليه, لكن هناك من يعبده على حرف, فلو أعطاه رزقا اطمأن وقال إن عبادة الله خير, وإن سلب منه شيئا نسى الإيمان, وهذا هو الإنسان الذى قال الله عنه « وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» [الحج 11], لأنه لن يستطيع أن يكسب أو يضيف إلى رزقه غير ما قسمه ربه له.
أيضا فقد أغوتك الدنيا منذ أن كنت فى مطلع الشباب فتقول إنك كنت تصرف فى اليوم الواحد ألف جنيه, وخضت الانتخابات أكثر من مرة, وخسرت فى المرتين بعد كل ما بعثرته من مال, ولم تعمل حساب الزمن, ونسيت قوله تعالى «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا» [الإسراء 26و27], ثم قوله «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا» [الإسراء 29], فالاعتدال والوسطية يقوم عليهما المنهج القويم لحياة ناجحة, وأن نوكل أمرنا إلى خالقنا, وأما عن موقف أصدقائك الذين انفضوا من حولك عندما استشعروا أنك لم تعد لديك منفعة لهم, فهم ليسوا بأصدقاء, فالصديق الحق هو من يساند أخاه وقت الشدة, ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المرء على دين خليله, فلينظر أحدكم من يخالل».
إذن أنت بحاجة إلى وقفة طويلة مع نفسك تعيد خلالها حساباتك فتنسى الماضى بكل ما فيه وتبدأ صفحة جديدة تستشرف بها مستقبلك, وتعود إلى جادة الصواب, وأسأل الله الشفاء لوالدتك, والرضا والقناعة لك ولزوجتك وابنتها, وهو وحده المستعان.
رابط دائم: