الكعبة التى تهفو إليها قلوب الملايين هذه الأيام هي بيت الله الحرام ، وقبلة المسلمين ، جعلها الله سبحانه وتعالى مناراً للتوحيد ، ورمزا للعبادة ، يقول الله تعالى «جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس» , وهي أول بيت وضع للناس من أجل عبادة الله جل وعلا, فقال تعالي: «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين» .
وقد اختلف المؤرخون فيما يخص اول من بني الكعبة المشرفة فمنهم من قال إن آدم عليه السلام هو من بنى الكعبة ومنهم من قال إن شيث بن آدم هو من بناها. ولكن أجمع كثيرون على أن الملائكة هم أول من بنوا الكعبة، أي قبل آدم عليه السلام، فيكون تاريخ بناء الكعبة سابقا لزمن آدم عليه السلام، ثم عاد عليه السلام وبناها هو ومِن بعده ابنه شيث. وجاء في “تفسير البغوي” (1/457): «روي عن علي بن الحسين أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتا، وهو البيت المعمور، فأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثاله وقدره؛ فبنوه، واسمه الضَّرَّاح، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، فكانوا يحجونه، فلما حجه آدم قالت له الملائكة: برحجك يا آدم، حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
..............................................................
قال الله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم» [البقرة : 127]. و لقد بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة من بعد طوفان نوح عليه السلام بحجارة بعضها فوق بعض من غير طين وجص، وحفر في باطنها على يمين من دخلها حفرة عميقة كالبئر يلقى فيها ما يُهدى إليها تكون خزانة لها، ولم يجعل للكعبة سقفاً، ولا باباً من خشب أو غيره، وإنما ترك لمكان الباب فتحة في جدارها الشرقي للدلالة على وجه البيت.
وقد كان بناء إبراهيم للكعبة من خسمة جبال، من طور سيناء، وطور زيتاء، ولبنان، والجودي، وحراء، وكانت الملائكة تأتيه بالحجارة من تلك الجبال، فكان هو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، فبناها على أساس آدم، وهذا الأساس حجارته من جبل حراء. وقد جعل إبراهيم عليه السلام للكعبة ركنين فقط، الركن الأسود والركن اليماني ولم يجعل لها أركاناً من جهة الحِجر بل جعلها مدورة على هيئة نصف دائرة كجدار الحِجر، وجعل الباب لاصقاً بالأرض وغير مبوب، وجعل ارتفاعها من الأرض إلى السماء تسعة أذرع، وجعل عرض جدار وجهها اثنين وثلاثين ذراعاً، وعرض الجدار المقابل واحداً وثلاثين ذراعاً، وعرض الجدار الذي فيه الميزاب اثنين وعشرين ذراعاً، وعرض الجدار المقابل له عشرين ذراعاً.
بناء قبيلة جرهم
هذا وتعد قبيلة «جرهم» اليمنية أولى القبائل التي سكنت مكة المكرمة بعد ان هاجرت اليها وأذنت لهم هاجر ام اسماعيل عليه السلام بالسكن إلى جوارها، بشرط الا يكون لهم في ماء بئر زمزم إلا ما يشربون منه وما ينتفعون به فوافقوا ونزلوا وأرسلوا الى أهليهم فنزلوا معهم، وظلت جرهم تشرب من ماء زمزم فلما استخفت بالبيت الحرام وتهاونت بحرمته وأكلت مال الكعبة الذي كان يهدى نضب ماء زمزم وانقطع حتى اختفى مكانه. وذكر الازرقي بسنده عن علي بن ابي طالب – رضي اللّه عنه – قال في خبر بناء ابراهيم للكعبة، انهدم البناء فبنته ثم انهدم فاقامته قبيلة جرهم التي اقامت نحو 300 سنة لا ينازعها في ولاية البيت احد، ولما خلا الجو لجرهم بغوا وطغوا واكلوا اموال الكعبة، واستأثروا بما يهدى وفرضوا الاتاوات على الحجاج والمعتمرين وكافة القوافل التجارية التي تمر بمكة المكرمة وسرقوا كنوز الكعبة المعظمة، وارتكبوا الفواحش والموبقات على مقربة من الكعبة المعظمة حتى حاربتها خزاعة وانتصرت عليها، واخرجتها من مكة صاغرة حيث لا مكان للطغاة والظالمين في حرم اللّه.
بناء قصي بن كلاب
يقول ابن إسحاق: كان قصي بن كلاب قد وُلي أمر الكعبة، وكانت له الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف مكة كله. وقصي هو الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جد في بناء الكعبة، وجمع النفقة ثم هدمها، وبناها بنياناً لم يبن أحد ممن بناه مثله وقد سقفها بخشب الدوم الجيد وبجريد النخل وبناها على خمسة وعشرين ذراعاً.
بناء قريش
ذكر أن البناء الذي تلى بناء قصى كان لجد النبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب، وهو مسنود على رواية الفاسي في (شفاء الغرام) لكنه غير ثابت، فلم يرد في المراجع والمصادر التاريخية لا صراحة ولا تلميحاً أن عبد المطلب بنى الكعبة المعظمة. أما بناء قريش فهو ثابت، وقد جاء في البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر، أمن البيت هو، قال: نعم، قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت، قال: ألم ترى قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً، قال: فعل ذلك قومك لِيُدخِلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه الأرض».
وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أنه قال: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة أجمعت قريش أمرها على هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو المخزومي وقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً لا يدخل فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. .
قال ابن إسحاق: «ثم إن القبائل من قريش جمعت حجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا حولها وتشاوروا وتناصفوا، فقال أبا أمية بن المغيرة: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه بالخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوباً، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ثم بنى عليه. فبنوا حتى رفعوا أربعة أذرع وشبراً، ثم كبسوها، ووضعوا بابها مرتفعاً على هذا الذرع، ورفعوها مدماكاً من خشب ومدماكاً من حجارة، وكان طولها تسعة أذرع فاستقصروا طولها وأرادوا الزيادة فيها فبنوها، وزادوا في طولها تسعة أذرع، وكرهوا أن يكون بغير سقف فلما بلغوا السقف قال لهم (باقوم) الرومي: إن تحبوا أن تجعلوا سقفها مكيساً أو سطحاً فعلت، قالوا: بل إبْنِ بَيْتَ ربّنا سطحاً، فبنوه سطحاً، وجعلوا فيه ست دعائم في صفين، كل صف ثلاث دعائم، من الشق الشامي الذي يلي الحجر، إلى الشق اليماني، وجعلوا ارتفاعها من خارجها من الأرض إلى أعلاها ثمان عشرة ذراعاً، وكانت قبل ذلك تسعة أذرع، وبنوها من أعلاها إلى أسفلها فكانت خمسة عشر مدماكاً من الخشب، وستة عشر مدماكاً من الحجارة، وجعلوا ميزابها يسكب في الحجر، وجعلوا أدرجة من خشب في بطنها في الركن الشامي، وجعلوا لها باباً واحداً وكان يغلق ويفتح.
بناء عبد الله بن الزبير
تم بناء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ما بين سنة 64هـ – 683م وسنة 65هـ – 684م، وهو أول بناء للكعبة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
عندما رفض عبد الله بن الزبير مبايعة يزيد بن معاوية أرسل يزيد جيشاً إلى المدينة بقيادة مسلم بن عقبة، ودخلها ثم إتجه إلى مكة ولكنه توفي قبل أن يصل إليها. وكان خليفته في قيادة الجيش الحصين بن النمير الذي حاصر مكة لفترة، وبالفعل استطاع الحصين أن يسيطر على جبل أبي قبيس وجبل قعيقعان، ثم أخذ يرمي الزبير وأتباعه الذين كانوا متحصنين داخل المسجد بالمنجنيق فأصيب المسجد، ولم يكتف الحصين بذلك بل رمى المسجد بالنار فاحترقت الكعبة، وضعف بناؤها، ولكن الحصين عاد إلى الشام بعد أن توفي يزيد. وبعد مبايعة عبد الله بن الزبير خليفة على المسلمين سنة 64 هـ كان أمامه أمران: إما أن يرمم الكعبة أو أن يهدمها ثم يعيد بناؤها، فقرر هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد سيدنا إبراهيم عليه السلام وليس كما بنتها قريش. ولقد جاء في رواية الحافظ: دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم فشاورهم في هدم الكعبة، فأشار عليه ناس كثير بهدمها، ومنهم جابر بن عبد الله، وأبى أكثر الناس هدمها، وكان أشدهم عبد الله بن العباس وقال: دعها على ما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، ثم يأتي بعد ذلك آخر فلا تزال أبداً تهدم وتبنى، فتذهب حرمة هذا البيت من قلوبهم، ويتهاون الناس بحرمتها، ولا أحب ذلك، ولكن أرقعها.
«فلما أراد ابن الزبير هدم الكعبة أخرج أهل مكة منها، بعضهم إلى الطائف، وبعضهم إلى منى، خوفاً أن يَنزِل عليهم عذاب لهدمها، ولم يرجعوا إلى مكة حتى أخذ في بنائها. فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض كشف أساس إبراهيم، فوجده داخلاً في الحِجر نحواً من ستة أذرع وشبراً، كأنها أعناق الإبل آخذ بعضها ببعض، فدعى ابن الزبير خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس، ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع حداث باب الكعبة على مدماك على الشاذروان الملاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريباً من الركن اليماني. فلما بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعاً في السماء، وكان هذا طولها يوم هدمها فقصرت لأجل الزيادة التي زادها من الحجر فيها، فقال ابن الزبير: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولاً في السماء، فأنا أزيد فيها تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعاً في السماء، وهي سبعة وعشرون مدماكاً، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى منها برخام يقال له الباق، فجعله في الروزن التي في سقفها للضوء، وبناها بالرصاص المخلوط بالورس، وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعاً واحداً، فجعل لها مصراعين طولهما أحد عشر ذراعاً من الأرض إلى منتهى أعلاها، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي، من خشب معرجة تصعد فيها إلى ظهرها، وجعل في سطحها ميزاباً يسكب في الحجر. بناء السلطان مراد
ثم تسبب سيل عظيم دخل المسجد الحرام عام 1039هـ – 1629م، في سقوط معظم البيت المعظم، فقد دخل السيل العظيم المسجد الحرام وملأ غالبه، ودخل الكعبة المعظمة من باب ووصل إلى نصف جدارها وبلغ في الحرم إلى طوق القناديل، وقد أدى ذلك إلى سقوط الجدار الشامي، وبعض الجدارين الشرقي والغربي، وسقطت درجة السطح، وكان أمراً جللاً أوقع الضجيج العام، وأزعج الناس.
فأمر السلطان مراد بتجديدها على أيدي مهندسين مصريين في سنة 1040 هـ-1630م.، وهو البناء الأخير والحالي للكعبة، حيث تم إصلاح وترميم المسجد بأكمله وفرشت أرضه بالحصى، وبدأ العمل في عمارتها يوم الأحد 23 جمادى الآخرة سنة 1040 هـ – 1630م، وتم الانتهاء من البناء في غرة شهر رمضان من السنة نفسها حيث استغرقت عمارتها نحو ستة أشهر ونصف .
رابط دائم: