يجلس علي ضفة النيل تمثال من ضوء يعجن إسطورته من اليومي, ولا يتوقف عن الضحك إلا لينكسر, يوزع نفسه في نفوس كثيرة وينتشر في كل فن, ليعثر علي الشعر في اللاشعر, صلاح جاهين يأكل نفسه لينمو في كل ظاهرة ينمو لينفجر. هكذا وصف محمود درويش عبقرية صلاح جاهين قائلا: تعرفت عليه منذ تعرفت علي صواب قلبي الأول, منذ يممت مع أبناء جيلي شطر الصعود إلي أعالي الأمل. ولم يكن في مقدور ولد مثلي أن يسلم يتيم الوطن والهوية مادامت مصر ذلك الزمان تقدم للعرب هوية روحهم, شعر صلاح جاهين الذي منح الهوية والوطن لمحمود درويش, أعطانا الإيمان بعبقرية هذا الوطن علي لسان بسطاء الناس الذين نفذ صلاح جاهين إلي روحهم.
ومسها مسا خفيفا فإذا هي تضيء بالعنفوان وتستدعي ميراثها من الذكاء والشطارة والمكر لتقف صلبة ساخرة في وجه ظالميها.
.........................................................................ولدي.. إليك بدل البالون ميت بالون
إنفخ وطرقع فيه علي كل لون
عساك تشوف بعينك مصيرا لرجال
المنفوخين في السترة والبنطلون
وعجبي
إذا كان إبداع نجيب محفوظ جاء من الحارة ووصل منها إلي روح مصر وعبقريتها, وإبداع الإبنودي جاء متوهجا كقرية صعيدية حرون, وقصص يوسف إدريس كانت ساحرة فاتنة مثل ريف مصر مستودع الحكايات, فإن إبداع جاهين هو كل ذلك, كان الوطن من الصعيد للريف للمدينة للحارة للباعة الجائلين, للبيه والباشا, والتلميذ, والموظف, والفلاح, والمغنواتي.

وكانت نشأة جاهين ملمحا جوهريا في إبداعه حيث مسحت عيونه جغرافيا الوطن في بواكير تفتح بصيرته علي الرؤية والاختزال. كان والده يعمل وكيلا للنيابة, وكان ينتقل بأسرته من محافظة لمحافظة ومن قرية, لقرية, فقد التحق جاهين في السنة الرابعة بروضة الكلية الأمريكية بأسيوط, وبعد سنتين كان في مدرسة الناصرية الابتدائية بالقاهرة ثم مدرسة شبين الكوم ثم عاد لأسيوط وحصل علي شهادة الكفاءة عام1946 وشهادة التوجيهية من طنطا عام1974 ثم عاد من طنطا للقاهرة مرة أخري. هذا الطواف القسري بقري مصر ومدنها أجاب عن صورة فتنتني وطالما بحثت عن مصدرها في شعر صلاح جاهين أقصد العالم الذي جاءت منه صورة.. القمح مش زي الدهب.. القمح زي الفلاحين.. تلك التي لا يلتقطها إلا فنان مغروس في طين الوطن. عاش مع الفلاحين وسمع مغني الربابة ومنشدي المواويل والذكر والأناشيد..
القمح مش زي الدهب
القمح زي الفلاحين
عيدان نحيلة جدرها بياكل في طين
زي إسماعين ومحمدين
وحسين أبو عويضة اللي قاسي وأنضرب
علشان طلب
حفنة سنابل ريها كان بالعرق
عرق الجبين
القمح زي حسين يعيش ياكل في طين
أما اللي في القصر الكبير
يلبس حرير
والسنبلة
يبعت رجاله يحصدوها
من علي عود الفقير
ولد صلاح جاهين25 ديسمبر1930 وكانت ولادته متعثرة حتي أن الجميع ظن أنه ولد ميتا, وقيل إن هذه الحالة تركت أثارها علي شخصيته فجعلته عندما يفرح يكاد يطير من الفرح وعندما يحزن يصل للاكتئاب. ولإنه كان واحدا من معالم مصر يدل عليها وتدل عليه كما قال محمود درويش فإنه كتب في إحدي لحظات الفرح أجمل قصيدة عشق للوطن.
علي أسم مصر التاريخ يقدر يقول مايشاء
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
بأحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب
وبأحبها وهي مرمية جريحة حرب
بأحبها بعنف وبرقة وعلي استحياء.
خطا جاهين خطواته الأولي في منزل جده أحمد حلمي رئيس تحرير جريدة اللواء الذي كان أحد تلاميذ مصطفي كامل وزميله في ثورته. والذى قضي معظم حياته في صراع مع الإنجليز, كان كاتبا وشاعرا, وكان إذا رأي أحدا يضرب طفلا يقول له: أتركه ربما هذا هو الذي سيخرج الإنجليز من مصر. فلم يكن غريبا أن يكون صلاح جاهين شاعر ثورة يوليو وأن تكون أشعاره وقود معركة العدوان الثلاثي1956 كديوان موال علشان القناة.
يجعل كلامي فانوس وسط الفرح قايد
يجعل كلامي لا ناقص ولا زايد
إحنا في وقت البنا مش وقت الكلام
يجعل كلامنا حجارة ومونة وحدايد
علي شباب تقتل في حب أوطاننا
شال السلاح في يمينه وقال يابلدنا
ندرن علي لخليك ولا الجنة
ثم أصبح نشيد والله زمان ياسلاحي هو النشيد الوطني لمصر, وبلغ من أثر هذا النشيد كما يقول الدكتور علي الراعي حدا دفع الاستعمار الغربي بعد إتفاقية كامب ديفيد إلي المطالبة بإلغائه كنشيد قومي, ووضع بدلا منه نشيد بلادي بلادي لسيد درويش. نشيد ثورة أخري بعيدة بينما نشيد والله زمان ياسلاحي هو نشيد ثورة حاضرة فكان التخلص من النشيد ضرورة ملحة لمن كانوا يروجون للسلام مع إسرائيل. وهو النشيد الذي فتح العهد الذهبي للأغنية الوطنية.
الشعب بيزحف زي النور.. الشعب جبال الشعب بحور
بركان غضبان بركان بيفور.. زلزال بيشق لهم في قبور
شعر صلاح جاهين ليس في حاجة إلي شرح أو تفسير إنه يمس الروح فتحس أنه أكبر من المعاني في بساطته وعمقه.
كلامي ماهواش غويط وماهواش عبيط
بسيط بساطة هدوم الغلابا الفقاري الحفاه
بسيط زي أسم صديق علي شفة صديق
بسيط زي دمعة بريء
بسيط زي وحش جعان في الفلاه
بسيط زي حفنة دقيق.
الإبداع عند كثير من المبدعين ابن المعاناة لكنه عند صلاح جاهين ابن الفلسفة وأسئلة الوجود والعدم, إبداع حيرة الرؤية الشفيفة والإيمان بالقضية التي يحملها الفنان, قضية الوطن أو قضية الوجود وكان جاهين مشغولا بالاثنين.
والكون كيف موجود من غير حدود
وفيه عقارب ليه وثعابين ودود
عالم مجرب فات وقال سلامات
ده ياما فيه سلامات من غير ردود
وعجبي.
الرباعيات خلاصة الإبداع الجاهيني وخلاصة الحكمة والفلسفة ولدت عام1959 عندما كان صلاح جاهين يسير كعادته في شارع قصر العيني متجها إلي مجلة صباح الخير, وأظنه كان واضعا يديه في جيب بنطاله وراح يدندن.
مع أن الخلق من أصل وطين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين
وعجبي.
وكانت تلك هي البداية للرباعيات التي أصبحت نشيد الأنشاد عند المصريين, ومن لا يحفظ منها شيئا, لا ينسي أن ينهي كلامه الساخر بكلمة عجبي الجاهينية بامتياز.
وعندما سمع أحمد بهاء الدين رئيس تحرير صباح الخير في ذلك الوقت الرباعية أعجب بها وقال له عايزك كل أسبوع تكتب رباعية. ومع الأيام أصبحت الرباعيات هي حياة جاهين وخلاصة إبداعه.
وعندما كتب إفتتاحية المجلة عام1966 قائلا: إن المجلة ستنذر نفسها كلية للضحك والتنكيت والتشويح, فإنه صور نفسه مثل قط يتسلل و يقف علي باب المجلة وتحت الرسم رباعية
ياباب يامقفول... إمتي الدخول
صبري ياما.. واللي يصبر ينول
دقيت سنين.. والرد يرجع لي مين
لو كنت عارف مين.. أنا كنت أقول
وعجبي
رغم حبه الجارف لجمال عبد الناصر إلا أن اسمه كان يكتب دائما علي رأس قائمة المعتقلين وكان عبد الناصر نفسه هو الذي ينقذه دائما من الاعتقال. وفي إحدي المرات قال الوشاة لعبد الناصر أن جاهين يقصدك برباعية
ياطير ياعالي في السما طظ فيك
متفتكرش ربنا مصطفيك
برضك بتاكل دود وللطين تعود
تمص فيه ياحلو.. ويمص فيك
عجبي.
لكن عبد الناصر لم يصدق ذلك وكان محقا بالطبع وقد رد صلاح جاهين علي الوشاة قائلا:
أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس
جلجلت به صحو الخدم والحرس
أنا المهرج قمتو ليه خفتو ليه
لاف إيدي سيف ولا تحت مني فرس.
تزوج صلاح جاهين مرتين الأولي من الرسامة سوسن زكي والدة الشاعر بهاء جاهين, قابلها أثناء زيارته لصديقه هبة عنايت بدار الهلال, وبسرعة أعجب بها وخطبها وأثناء حفل الخطوبة قام وهو البدين وضرب شقلباظ علي السجادة ثم تزوجا عام..1955
وبعد أن حدث الانفصال بينهما كان يحضر لها تورتة عيد ميلادها كل عام.
بين موت وموت بين النيران والنيران
علي الحبل ماشيين الشجاع والجبان
عجبي علي دي حياة.. وياللعجب
إزاي أنا.. ياتخين.. بقيت بهلوان
عجبي.
ثم التقي بزوجته الثانية مني قطان وتزوجها رغم فارق السن(13 سنة) واختلاف الديانة. تزوجها بعد النكسة وقالت مني قطان بعد ذلك أن ديوان قصاقيص ورق كان أفضل تعبير عن علاقتهما.
أنا أحب أقول الشعر في الحلوين
والحلو أقول له: ياحلو في عيونه
ولو ابتديت في شفايفك النونو
مايكفيني فيهم سبع دواوين
تزوج وهو في حالة اكتئاب بسبب النكسة وعندما ضرب الإسرائيليون مدرسة بحر البقر كتب قصيدة الدرس انتهي لموا الكراريس
إيه رأيك في البقع الحمرا
ياضمير العالم ياعزيزي
دي الطفلة مصرية وسمرا
كانت من أشطر تلاميذي
كانت الهزيمة ضربة قاصمة لصلاح جاهين ثم جاءت وفاة عبد الناصر لتزلزل كيانه تماما وكتب
حتي الرسول مات وأمر الله
لابد يكون
بس الفراق صعب
وإحنا شعب حنون
وحشتنا نظرة عيونك للبلد ياجمال
والحزم والعزم فيها وجهها المكنون.
وعندما جاء السادات لم تكن العلاقة بينهما طبيعة كانت الكيميا بين الفنان والزعيم التي تحققت أيام عبد الناصر لا وجود لها أيام السادات وعندما حدث نصر أكتوبر لم يكن له أن يغيب عنه فكتب
نكبح جماح الزهو مع إنه من حقنا
ونحمي النفوس منه
ولو العبور سألونا يوم عنه
هنقول مجرد خطوة خدناها.
كان صلاح جاهين يهوي الرسم, ويرسم علي الأوراق الموجودة علي مكتبه, وبالمصادفة شاهد أحمد بهاء الدين هذه الرسومات وسأل عن صاحبها فقالوا صلاح جاهين فقال:
هاتو هولي من تحت الأرض. وأعطاه صفحة أسبوعية يرسم فيها مايشاء.
وعندما انتقلت رسومه للأهرام أصبحت عنوان مدرسة كبيرة في دنيا الكاريكاتير, دخل من خلالها جاهين معارك كبيرة ضد الفساد والتخلف والجهل كما كانت رسومه مثل أشعاره تتسم بالعمق والبساطة.
كان جاهين شمسا تشع بالفرح ـ كما قال أحمد بهجت رغم أن باطنه كان ليلا من الأحزان العميقة وكان يداري أحزانه ويخفيها عن الناس ويضع منها ابتسامة ساخرة ويظهر علي الناس بوجهه الضاحك كل يوم.
دخل النبي بردان خديجة لفته
حطت عليه غطيان لحد مادفته
دخل النبي بردان وقال فين الغطا
البسمة غطت شفته.
هذه اللوحة البديعة من ديوان عن القمر والطين قال عنها رجاء النقاش أنها تعتبر أرقي صورة شعرية للحنان في الشعر العربي الفصيح والعامي علي السواء.
ربما لهذا السبب قال يحيي حقي: لم يهدد أحد اللغة الفصحي كما هددها صلاح جاهين مضيفا حتي بيرم التونسي لم يشكل خطرا علي الفصحي لإنه إقتصر علي المحاكاة والوصف, أما صلاح جاهين فقد رفع العامية بعد أن طعمها بالفصحي وثقافة المثقفين ـ فهي في الحقيقة لغة ثالثة ـ إلي مقام اللغة التي تستطيع أن تعبر عن الفلسفة شعرا وهذا خطر عظيم. ومع حبي للرباعيات أتمني من صميم قلبي أن تكون عاقرا:
عجبي عليك يازمن
يابو البدع يامبكي عيني دما
أزاي أنا أختار لروحي طريق
وأنا اللي داخل الحياة مرغما
كان أبا وراعيا لكل فن راق فتنبأ لسعاد حسني بأنها ستكون أفضل ممثلة في مصر, وقد ارتبطت به ارتباطا كبيرا. كانت تعتبره والدها وتضع صورته في شقتها بلندن حتي ماتت.
أما أحمد زكي فقد قال عنه: لقد منحني عقله وقلبه وكل مايملك
رقاص أنا وشاعر وناياتي
وأفدي رفاق الفن بحياتي
وأفديك يانجم أخضر يابياتي
أفديك أنا
ملأ صلاح جاهين الدنيا ضحكا وغناء وهو الذي يمور داخله الحزن, وفي ليلة16 ابريل1986 ليلة الغارة الجوية الأمريكية علي ليبيا دخل غيبوبة الموت الأخيرة
خرج بن آدم من العدم وقلت ياه
رجع بن آدم من العدم وقلت ياه
تراب بيحي وحي بمصير تراب
الأصل هو الموت ولا الحياة
وعجبي
طرزان
يوم الخميس,
واللب, والأحلام, في كيس
طرزان بيغطس في الهويس.
طرزان جدع,
طرزان شديد,
دراعه أجمد م الحديد
قزقزت نص اللب, هاه..
طرزان بيصرخ: عا عا عاه..
خنق الأسد,
طحن الدماغ, عجن الجسد..
قرقشت باقي اللب, من غير قزقزه
طرزان صرخ قال: عاعاعاه..
صرخت انا كمان وراه..
ولما قال لشيتا: ياامه زغرطي..
وحط رجله ع التعيس, فوق التراب,
حطيت معاه رجلي, بدون جزمة وشراب,
ورسمت بعيون الخيال, بدل الأسد,
محمود أفندي حسين.. مدرس الحساب!
رابط دائم: