يمكننا أن نرتاح قليلا عند شجرة جميز... بنت النيل التى تقف الآن وحيدة فى بر مصر.فعندها وحولها كان أهل مصر يعيشون وينتجون ويبذرون ويزرعون،فتخضر الأرض وسط قرى وبيوت طينية تماثلت قاماتها وعاش فيها أهل البلاد منذ زمن بعيد جدا.
ربما يبدو هذا الزمن البعيد مجهولا فى بعض التفاصيل، الا أن واقع بر مصر المدهش يدلنا على أن أهل مصر منذ بدايات البدايات خضروا هذه الأرض، و لم يتوقفوا عند حدود قمح أو شعير، أو استزراع خضر وفاكهة، حتى أن أشجارا اكتسبت صفات قومية صميمة, كشجر الجميز الذى أصبح موجودا بقوة كشجر مصرى زُرع و مد جذوره منذ قديم الأزل.
الزراعة- و بلا شك- هى أصل الحكاية والكلام والوطن، ولهذا كتب أحمد باشا كمال, أول أثرى مصرى, فى كتابه القيم «اللآلئ الدرية فى النبات والأشجار القديمة المصرية» عن زراعة المصريين، وتوقف مثلنا عند شجرةالجميز «حيث كان القدماء يعتقدون أن الروح تعود إلى جسدها بأمر المعبود فى أصول شجر الجميز» فهى وغيرها من نبت البلد الأصيل مذكورة ومرغوبة كما كان الحال بالنسبة لنبات البردى واللوتس والصفصاف والعدس والخس والبصل والنبق ونخيل الدوم.
يمكننا أن نعتبر الشجر و الحقول والحصاد رواة آخرين لهذه القصة، فهم موجودون على طول خط النيل فى بر مصر، وهم شهود على زمن كانت القرى والأقاليم فيه تتحد مع بعضها البعض، و يتجمع و يتجاور أهل هذا البلد حتى أصبح لدينا فى النهاية وجهان: قبلى وبحرى.
كلام معروف وحقائق بديهية، فنحن ننسى أحيانا أن مصر قبل أن تتوحد كانت كيانين، وأن كلاً منهما قدم قصة رائعة للحضارة المصرية عبر الكثير من الاجتهادات التى سجلت لكل منهما مكانة غير مسبوقة من التقدم قبل أن تتوحد مصر داخل كيان واحد.
فتاريخ مصر يقول إن كثيراً من المقاطعات تكاتفت و تألفت حتى ضم الوجه البحرى وحده عشرين مقاطعة، بينما تألف و توحد الوجه القبلى فى اثنتين وعشرين مقاطعة.
هذه المقاطعات لم تكن لتتآلف فيما بينها فى خطوة واحدة، فعلى سبيل المثال كانت هناك مملكتان فى الوجه البحرى اتحدتا فيما بينهما حتى أصبحنا مملكة واحدة لها رمز وتاج موحد، ليتكرر الأمر وبتفاصيل أخرى فى الوجه القبلى الذى أصبح كيانا موحدا له حاكم وتاج ورعية.
واستمر هذا الوضع فى تصاعد، فالنجاح مشجع لفكرة الاستمرار، وهناك تفسير مبدئى لنشأة الدولة الموحدة على أرض مصر واستمرارها، فالصعايدة والبحراوية ينتمون إلى نفس السلالة البشرية. وهما كيان واحد بحسابات التاريخ والجغرافيا و المصير.
تفسير قد لا يعجب الكثيرين ويعتبرونه مجرد كلام نمطى ثقيل، ولهذا نلجأ إلى تفسير آخر يجعلنا نعود للخلف لآلاف السنين لنتعرف عن قرب على تمام اكتمال الخلطة السحرية لأهل مصر، يقدمه الأثرى الكبير د. سليم حسن فى موسوعة مصر القديمة، الذى يعتقد أن مصر كانت مسكونة منذ عصور ما قبل التاريخ بقوم من الجنس الحامى الذى يقال إنه نشأ من البلاد نفسها أى إفريقى الأصل وينسب إلى إفريقيا الشمالية وهو المسمى الأن بالبربر، وإلى السكان الحاميين من إفريقيا الشمالية للشرقية «الصوماليين».
وعلى ذلك والكلمة له- تكون مصر جزءا من مجموعة المدنيات الحامية الإفريقية, غير أنه عند نهاية عصر ما قبل الأسرات نجد بعض التغيير أخذ يدخل على هذا الشعب الحامى الناشئ من طبيعة البلاد نفسها.
والظاهر أن هذا التغيير جاء عن طريق الهجرة، وكانت أهم العناصر الجديدة التى دخلت البلاد من أصل اسيوى ولها مميزات خاصة تختلف اختلافا بينا عن الشعب الأصلى.
أما موضوع دخول هذه القبائل الاسيوية مصر والجهة التى دخلوا البلاد منها و العصر الذى دخلوا فيه بالتحديد، فإنها أشياء لم يجمع فيها العلماء على رأى قاطع.
فمن قائل إن المهاجرين أو الفاتحين جاءوا إلى مصر من شبه جزيرة بلاد العرب و دخلوها عن طريق البحر الأحمر من جهة قفط، أو عن طريق أعالى وادى النيل. ومن قائل إنهم أتوا من نواحى سوريا، ودخلوا مصر من سيناء فشرقى الدلتا، ثم انتشروا فى الدلتا الغربية ثم الوجه القبلى.
لم ينته كلام عالمنا المصرى الكبير ..فمازال التساؤل قائماً حول الشمال والجنوب أو الوجهين القبلى والبحرى.
فهناك من يميل إلى الرأى القائل إن صناع الحضارة هم من الصعيد، وهذا لأن الوجه القبلى اكتشفت به بعض الحفائر التى تشير صراحة إلى كيان متحضر خاص.
كما أن وجود «حور» الذى يعد من أقدم المعبودات المصرية مصدره الجنوب, عن طريق بلاد النوبة أو أعالى وادى النيل عقب غزو من أطلق عليهم «أتباع حور».
ولكننا فى المقابل، نجد أن أشهر العبادات التى انتشرت فى طول البلاد وعرضها تدريجيا هى عبادة «أوزير» و يرجع أصلها إلى بلدة أبو صير القريبة من سمنود، وعبادة «رع» ويرجع اصلها إلى بلدة عين شمس القريبة من القاهرة.
علوم ومعمار
لم تنته القصة بعد، فلدينا ما نقوله عن الوجه البحرى الذى تدين له مصر بالكثير، فهو الذى احتفظ بالقيادة كمركز للفنون و الحرف، و أكثر من استفاد من عصر المعادن فى بر مصر.
كما أن أهل بحرى- و بشهادة عالم المصريات الكبير هنرى جيمس بريستيد- هم من توصلوا فى القرن الثالث والأربعين قبل الميلاد إلى حقيقة أن السنة الشمسية تتكون من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما، على أن تبدأ السنة بظهور نجم الشعرى اليمانية مع شروق الشمس.
وبالتالى يكون أهل بحرى بهذا المنهج قد قدموا الحضارة المصرية على طبق من فضة، فهم من فهموا الأرض المصرية وحددوا فصولا للزراعة والرى، وبهم أصبح للحياة إيقاع يضمن لأهل البلاد الاستمرار والبقاء.
ولكن انتظروا، فالموقف لم يحسم بعد لأهل وجه بحرى العظام، علينا أيضا أن نتمهل وأن نعطى نفس الفرصة للوجه القبلى لننظرماذا قدم وفعل.
فما قدمه الوجه القبلى قبل حكم الأسر لا يقل بأى حال، فالصعايدة منحوا مصر تفاصيل أخرى للتحضر وإضافات لم تعرفها البشرية من قبل . ولكى نعرف ما حدث فى وجه قبلى فى ذلك الزمن البعيد، علينا أن نستشهد بما قام به أحد فراعنة مصر: بيبى الأول أحد ملوك الأسرة السادسة من محاولة محمودة لتشييد معبد جهة دندرة يماثل معبدا أقامه أحد ملوك الوجه القبلى قبل حكم الأسر، وهو ما يعنى أنه فى الجنوب كان الصعيدى سيد البنائين الذى قامت البلاد على أكتافه.
ولكن هل يمكننا أن نطمئن لهذه المعادلة بأن نقول إن أهل الصعيد هم من قدموا العلوم والمعمار وبنوا المعابد والأهرامات، وأن أهل بحرى هم أصحاب الزرع والفلك والقلم؟
لا أعتقد أن المعادلة بهذا الشكل تكون صحيحة. لم تكن المسألة صراعا أو سباقاً بل هو تكامل.
لتفسير ما حدث فى بر مصر، سنجد أن مينا ابن العرابة المدفونة بمركز بلينا بسوهاج لم يكن مغتصبا، ومنطق القوة ليس هو من أخرس البحراوية وجعلهم يقبلون بهذا الوضع للأبد.
بالتأكيد هذا الكلام ليس صحيحا، فمينا موحد القطرين يقترن بأميرة من وجه بحرى ويربى أبناءه بمنطق أهل مصر وليس البحراوية و الصعايدة.
ومن بعده يأتى فراعنة وأسر حاكمة من الصعيد ومن وجه بحرى، فالأسرة الثانية عشرة التى اعتبرت من أزهى عصور الفلاح المصرى والثامنة عشرة التى بدأت بأحمس محرر البلاد من الهكسوس من الصعيد، فى حين أن الرعامسة الكبار من الأسرة العشرين من الشرقية.
وتوجد ضمن القصص الشخصية فى بر البلاد حكاية عن ابنة شقراء لأحد ملوك عصر بناة الأهرامات، وابنة سمراء ذات ملامح جنوبية لملوك آخرين فى زمن سنوحى و الفلاح الفصيح.
فالكل فى واحد، وقد كانت هذه هى أفضل كلمات نشيد الحياة الذى غنته مصر بصوتها الرائع الصداح، وبعد ذلك كله أتعجب من التساؤل حول من الأفضل والأعظم... فالحضارة المصرية هى أبنه الصعايدة و البحراوية قبل أن يبدأ التدوين والكلام.
رابط دائم: