تزول الدهشة لرؤيتنا القصص القرآني وهو ينتهج نفس التقنية التي يتبعها الفيلم في فن السرد السينمائي,
ومن قبل أن تخترع السينما كآلة أو كفن بأربعة عشر قرنا.. بل سنتبين أيضا أن تقنية السرد في أغلب هذا القصص القرآني قد سبقت ما بات يعرف بمرحلة الحداثة في الفن السينمائي,
ليس الإسلام دين إرهاب ولا عنف ولا عدوان. إنه دين الحب والفن والإبداع والجمال وعلي هذا النحو سنجد طرائق العيش التي يحض عليها. وكان البديع أحد أسماء الله الحسني, فلا مجال للدهشة إذ نري القصص القرآني وقد اتبع تقنية السرد السينمائي في القص/ الحكي, وقد يندهش بعضنا أو يستهجن آخرون, لكن هذه الدهشة أو هذا الاستهجان, سرعان مايزولان ونحن نطالع ما يزخر به القرآن الكريم من آيات مفعمة بصور الفن والجمال والإبداع.! فالقرآن الذي أنزل لبني البشر أجمعين, توجه بخطابه إلي الإنسان, وهو يضعه في أشرف مكان له في ميزان العقيدة وفي ميزان الفكر وفي ميزان الخليقة الذي توزن به طبائع الكائن بين عامة الكائنات( الإنسان في القرآن ـ عباس محمود العقاد ــ الهيئة العامة للكتاب ـ القاهرة ـ1997)
.................................................................. ونراه يستحثه لتأمل بديع صنعه, وتأمل جمال الكون من حوله, بل يستحثه علي التجمل بجمال الزينة, وعلي ألا ينسي نصيبه من الدنيا, في ذات الوقت الذي يستحثه فيه علي إعمال ملكاته كلها كالتفكر والتدبر والتأمل والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون( النحل ـ8) بل نجده يقرن ما بين الزينة والعبادة, فالزينة للعبادة واجبة كوجوبها لمقاصد الدنيا ومطالب المعيشة, والخطاب في هذا موجه إلي بني آدم لأنه نعمة مرضية من نعم الإنسانية, ومن تمييز الله لهذا الإنسان علي سائــرالحيوان يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين( الاعراف ـ31) فهل ثمة زينة أو جمال وتجميل من غير إبداع وفن؟
فلا غرو أن نري القرآن الكريم وهو يحفل بآيات ملؤها الفن والجمال والإبداع وحب الحياة علي نحو ما سنري.! تزول الدهشة لرؤيتنا القصص القرآني وهو ينتهج نفس التقنية التي يتبعها الفيلم في فن السرد السينمائي, ومن قبل أن تخترع السينما كآلة أو كفن بأربعة عشر قرنا.. بل سنتبين أيضا أن تقنية السرد في أغلب هذا القصص القرآني قد سبقت ما بات يعرف بمرحلة الحداثة في الفن السينمائي, وأن بعضه انتهج لنفسه ذات الخط الذي سارت عليه السينما التقليدية في بواكيرها, عندما كانت تصور مشاهد كاملة في لقطة واحدة, دون قطع أو مونتاج, حيث يسير الزمن فيها علي خط مستقيم من الماضي إلي الحاضر وكأنه علي سن مسطرة.!
تتعدد مظاهر الحداثة في بنية السرد السينمائي, مؤكدة علي أن السينما فن يهدف إلي الإرتقاء بثقافة المتلقي وتغذية روحه ووجدانه بكل ما هو جميل, وليس إلي دغدغة حواسه وتسطيح مفاهيمه عندما يهبط به الهابطون من أهله.! ويعج قصص القرآن الكريم بسمات هذه الحداثة المتمثلة في بعض الإشكاليات التي شغلت جمهور المفسرين, قديما وحديثا, فاجتهدنا في فك طلاسمها, معتمدين في المقام الأول علي قاعدة أن القرآن يفسر بعضه بعضا. ومن هذه الإشكاليات:
ـ إشكالية مقتل النبي موسي للقبطي.
ـ إشكالية مراودة إمرأة العزيز للنبي يوسف( فك لغز كلمة لولا التي كانت تمس عصمة الأنبياء في ذلك المشهد العاصف لمراودة امرأة العزيز للنبي يوسف عليه السلام, حيث أن سرد ذلك المشهد قد خالف في ترتيب وقائعه ما حدث بالفعل داخل تلك الغرفة التي تغلقت أبوابها.!)
ـ إشكالية حوار النبي سليمان مع بلقيس.
ـ إشكالية العدد الصحيح لأهل الكهف( ونستطيع أن نزعم أننا أول من اكتشف العدد الحقيقي لأصحاب الكهف من بين كل من تعرضوا للقرآن الكريم بالشرح والتفسير.!)
أولا: إشكالية مشاجرة النبي موسي:
كثيرا ما نري حادثا ما في الحياة وقد اختلف حول تفاصيله الناس.! وكثيرا ما نري حادثا في أحد المشاهد السينمائية, وقد تم تصويره عدة مرات, ومن زوايا مختلفة, وبوجهات نظر متباينة بعدد شهود هذا الحادث.
وقد تتفق شهادات هؤلاء الشهود في بعض ما يدلون به جزئيا أو كليا, وقد تتعارض وتتناقض مع بعضها بعضا حسب زاوية الرؤية أو المكان الذي كان يقف فيه هذا الشاهد أو ذاك, أو حسب أهواء وأهداف كل منهم.
يعتمد السرد في مثل هذه الأفلام علي طريقة الـFlashBACK أو العودة إلي الوراء وهي طريقة مبتكرة تعبر عن مجرد افتراض, أو وجهة نظر, أو تعرض جانبا واحدا من جوانب الحقيقة المتعددة. ذلك أن تقديم الحدث الواحد من خلال وجهات نظر مختلفة, من شأنه أن يؤدي بنا إلي إنكار وجود نظرة يقينية واحدة, تحيط بكل شئ وكأنها صادرة عن ذات إلهية.
ولقد كشف فيلم المواطن كين ـ الذي يعد بداية للسينما الحديثة والذي أخرجه باقتدار أورسون ويلز عام1941 ـ عن كل ما تنطوي عليه الفكرة من إمكانات بالنسبة لفن السينما. وعن مدي اتساع الخطوة التي خطاها هذا الفيلم إلي الأمام في اتجاه الحداثة. إذ كسر شوكة الهيمنة التي فرضتها الطريقة المعتادة في بناء الحبكة القصصية والتي تقضي بتوالي الأحداث في خط مستقيم. فعلي الرغم من أن الفيلم له بداية ووسط ونهاية إلا أنه ليس من المحتم أن تظل هذه الحلقات بنفس هذا التسلسل.
فيلم المواطن كين لــه هذا القـدر مـن الأهمية, لأنـه حطـم فـي مـرة واحدة وإلـي الأبـد تـلك المغالطة المسماة بـ الواقعية الفوتوغرافية والتي قامت علي أساسها أفلام عديدة, وأعني بها ذلك الاعتقاد بأن الشئ ـ كل شئ ـ إنما ينطوي علي حقيقة بسيطة يمكن الإحاطة بها بمجرد أن تسجل كاميرا السينما مظهره الخارجي, لقد تخلي ويلز عن الزعم بأنه يعرض أحداث الفيلم من خلال نظرة شبيهة بنظرة الإله العليم بكل شئ, كما أدخل فيه اللبس بكل صنوفه, والتناقض بكل ألوانه, ومن هنا حقق تقدما ذا شأن نحو الواقعية الحقة.
كثيرا ما تم استخدام هذه اللقطة الافتراضية في قصص القرآن الكريم, والتي لم يدخل بها فن السينما إلي الحداثة إلا في عام1941, وإن كان الذي رواها هنا هو الإله العليم بكل شئ بالفعل, والذي كان يدفع مسارها من خلف. ففي سورة القصص ـ مثلا ـ يطالعنا المشهد التالي:
منذ أن وجد آل فرعون الوليد موسي, والتقطوه من النهر, يدخل الراوي العارف بالأمور ليسرد: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسي أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون وأصبح فؤاد أم موسي فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا علي قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم علي أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلي أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون( القصص,138)
منذ ذلك الحين الذي تربي فيه موسي في كنف قصر الفرعون, لم نسمع له أي ذكر. ولا ندري كيف ترعرع في حجر امرأة الفرعون, غير أنه كان قرة عين لها. هذه الفترة من حياة موسي هي التي يمكن أن نعتبرها بحق فجوة بحسب تعبير سيد قطب. يعود موسي إلي الظهور مع الراوي الذي يحكي: ولما بلغ أشده واستوي آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين.
هكذا نفاجأ بموسي وقد بلغ الأربعين من العمر( بلغ أشده أي بلغ الأربعين عند جمهور المفسرين) وهو يدخل المدينة خلسة لسبب غير معروف.!
ودخل المدينة علي حين غفلة من أهلها/ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه/ فاستغاثه الذي من شيعته علي الذي من عدوه/ فوكزه موسي فقضي عليه/
قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين/ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم/ قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين/
فأصبح في المدينة خائفا يترقب/ فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه/ قال له موسي إنك لغوي مبين/ فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما/ قال يا موسي أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلآ أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين( الآيات15 ـ19)
يقول ابن كثير أن النبي موسي عليه السلام لما أراد أن يبطش بالقبطي قال: يا موسي أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس, إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين. لكن بعض المفسرين ذهب إلي أن القائل هنا إنما هو الإسرائيلي الذي اطلع علي ما كان صنع موسي بالأمس, وكأنه لما رأي موسي مقبلا إلي القبطي اعتقد أنه جاء إليه, لما عنفه قبل ذلك بقوله: إنك لغوي مبين. فقال ما قال لموسي, وأظهر الأمر الذي كان وقع بالأمس. فذهب القبطي فاستعدي الفرعون علي موسي. وهذا الذي لم يذكر كثير من الناس سواه. ويحتمل أن قائل هذا هو القبطي, وأنه لما رآه مقبلا إليه خلفه, ورأي من سجيته انتصارا جديدا للإسرائيلي. فقال ما قال من باب الظن والفراسة: إن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس, أو لعله فهم من كلام الإسرائيلي حين استصرخه عليه ما دله علي هذا. والله أعلم.
وهناك من المفسرين من أيد أحد الرأيين ثم عدل عنه ليؤيد الرأي الآخر, حيث يكشف لنا سيد قطب أنه كان أحد هؤلاء, حيث يقول:... لكن الأقرب أن يكون القبطي هو الذي قال ما قال. وقد عللنا ذلك بشيوع ذلك السر. وأنها قد تكون فراسة أو حدسا من المصري بمساعدة الظروف المحيطة بالموضوع.
ثم يبين لنا في هامش نفس الصفحة التي يجزم فيها برأيه ذاك: جريت علي الرأي الأول في كتاب التصوير الفني في القرآن ولكني إلي هذا الرأي الأخير أميل الآن. يتبين لنا من كل هذا, أننا إزاء لبس يزيغ أو( يزغلل) أعين المفسرين ويلاعبهم. بل يتلون هذا اللبس الواحد, وتزيغ الحقيقة أمام الأعين, فكأنها تجري في غبشة المساء! بل تتلون وتلتبس في عيني المفسر الواحد عبر الزمن, فلا يجئ رأي كل منهم إلا علي سبيل الظن والاحتمال, وإن امتلك الحجة وحسن الاستنتاج.! فلماذا يتركنا سياق القصة حياري هكذا أمام هذه النقطة الملتـبـسة؟. لماذا يتركها مفتوحة علي أبواب الظن والاحتمال, ولم لم يغلقها بباب التوكيد واليقين.!؟ ما هو الغرض؟
يعلم الله( الراوي) أننا أمام لقطة افتراضية تروي حدث المشاجرة هذه من وجهات نظر متعددة للشخصيات, وسواء صدقت أم لم تصدق.. فهي لا تهدف ـ علي الأغلب الأعم ـ إلا إلي إقناعنا بعدم القدرة علي الوصول إلي الحقيقة إلا بالظن.! أما اليقين والمطلق فملك يديه هو وحده.
وكثيرا ما رأينا استخدام مثل هذه اللقطة الافتراضية في السينما علي نحو ما ذهب إليه المخرج الياباني كيروسا في فيلمه راشومون وقد خطا به خطوة أخري بالسينما نحو الحداثة.
والفيلم يقوم علي فكرة بسيطة, ذلك أن أحد النبلاء بينما هو يمر بالغابة ممتطيا جواده ينقض عليه قاطع طريق ويتغلب عليه ثم يغتصب زوجته. ولكن هذا الموقف البسيط يعالجه كيروسا معالجة من شأنها أن تجعل الفيلم يتحول إلي دراسة موضوعها استحالة الوصول إلي الحقيقة. فقصة الاغتصاب وما تلاها من أحداث يرويها الفيلم أربع مرات:
1ـ إذ يدعي قاطع الطريق أنه استجاب لتوسلات المرأة فأطلق سراح زوجها ولم يقتله إلا من خلال مبارزة عادلة.
2ـ بينما تؤكد المرأة ذاتها أنها قتلت زوجها لأنه ركلها بعد واقعة الاغتصاب.
3ـ أما الزوج( الذي كان يتحدث من خلال وسيط) فيزعم أنه انتحر بعد محاولة زوجته تحريض قاطع الطريق علي قتله.
ومن الواضح أن كل شخصية من هذه الشخصيات الثلاث التي تشكل الثلاثي الرئيسي في الفيلم لديها ما يجعلها تروي الأحداث رواية تبعث علي الثقة فيها, وأن تعيد صياغة الحقيقة بحيث تدخل في نسيج هذه الرواية, وليس ثمة سبب يدعونا لتصديق إحدي الشخصيات دون الأخري.
4ـ ثم يأتي بعد هذا كله حطاب ـ وهو من غير شهود الحادث ـ فيدلي بروايته للوقائع, لقد توسل قاطع الطريق إلي المرأة لكي ترحل معه, ولكنها ولت هاربة بعد أن طلبت من الرجلين ـ قاطع الطريق وزوجها ـ أن يتبارزا, فشرعا ـ علي مضض شديد وبإلحاح منها ـ في المبارزة.
هذه الرواية ولعلها أبشع الروايات الأربع ـ تخلع علي كل أبطال الفيلم رداء الشر, وتشرح لنا سبب لجوئهم إلي الكذب, غير أنـه سرعان ما يساورنا الشك في صدق رواية الحطاب عندما نعلم ـ ضمنا ـ أنه لص. فلأحد الأفلام التي قد تصور هذه القصة أن يأخذ بأن القائل في مشهد سورة القصص المشار إليه:
1ـ أنه كان القبطي.
2ـ ولآخر أن يصور لنا أن القائل إنما كان الإسرائيلي.
يصح هذا وذاك. ولم لا يصح أيضا أن تعرض علينا وجهتا النظر في مشهدين متواليين, الواحد تلو الآخر في نفس الفيلم.؟ ثم يتبع كل منها ما سوف يترتب عليها.
ثم يتوقف السرد بعد إتمام وجهة النظر الأولي وما ترتب عليها.
ليعود السرد لينطلق بالحدث ثانية, من عند ما يعرف بالنقطة( صفر) إلي إتمام وجهة النظر الثانية بما سوف يترتب عليها أيضا. رأينا في بعض الأفلام مثل إبداع هذه اللقطات الافتراضية الجميلة التي تثري العقل بتقليب الاحتمالات, و(نــكش) الظنون, وفرض الفروض والبحث في مدي صدق أي فرض منها.!
حداثة السرد في قصة النبي يوسف:
كان ليعقوب من البنين أثنا عشر ولدا ذكرا, وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم. وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام.
رأي يوسف وهو صغير قبل أن يحتلم, كأن أحد عشر كوكبا, وهم إشارة إلي بقية إخوته, والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه قد سجدوا له, فهاله ذلك. فلما استيقظ قصها علي أبيه, فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة, بحيث يخضع له أبوه وإخوته فيها. فأمره بكتمانها وأن لا يقصها علي إخوته, كيلا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدواه بأنواع الحيل والمكر.
وتبدأ قصة النبي يوسف في القرآن ببدايتين. وقد أحرز بهما قصص القرآن لنفسه الريادة في ذلك التكنيك الجديد في تقنية السرد أو الحكي قبل اختراع السينما كآلة أو فن. إنه نفس التكنيك الذي تنتهجه الآن بعض الأفلام, حيث تبدأ ببدايتين اثنتين لا بداية واحدة. حيث تدور الكاميرا بالحدث لمدة قصيرة ما. وعند لقطة معينة, إذ بالكاميرا تتوقف, ويبدأ التتر في النزول أو الصعود بأسماء الممثلين والفنيين وانتهاء بالمخرج. ثم تعود الكاميرا, من بعد توقف لتدور بالحدث ثانية إلي نهاية الفيلم. هذا نفس ما نراه من تكنيك في قصة النبي يوسف:
البداية الأولي لقصة يوسف:
حيث نري يوسف يخبر أبيه يعقوب برؤياه:
يوسف:... يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين...
الأب يعقوب: قال يا بني لا تقصص رؤياك علي إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلي آل يعقوب كما أتمها علي أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن ربك عليم حكيم
ويتوقف السرد بعد هذه النصيحة من الأب يعقوب لإبنه بألا يقص رؤياه علي إخوته. عندئذ نسمع صوت الراوي يقول: لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين...
ومع الراوي, تبدأ البداية الثانية للقصة مع قطع إلي/ إخوه يوسف وهم يتآمرون معا علي قتله حسدا منهم..
البداية الثانية للقصة:
إخوة يوسف: إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلي أبينا منا
يقول سيد قطب في ظلال القرآن عند تفسيره لهذه القصة وعند غيرها من القصص القرآني بأن هناك ما سماه بالفجوات في أحداثها.! وما ظنه بفجوات, ليس بفجوات وإنما هو المونتاج أو ترتيب وإعادة التركيب للقطات المشاهد علي نحو ما رأينا.
يقول سيد قطب:... والقصة مقسمة إلي حلقات وكل حلقة تحتوي جملة مشاهد, والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد يملؤها تخيل القارئ وتصوره, ويكمل ما حذف من حركات وأقوال, مع ما في هذا من تشويق وإمتاع. ويقول وهو يتعرض للمشهد الذي أدلي فيه وارد إحدي القوافل بدلوه في البئر الملقي فيه يوسف: وجاءت سيارة, فأرسلوا واردهم, فأدلي دلوه ليملأ الدلوـ ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظا بالمفاجأة القصصية للقارئ والسامع. قال: يا بشري هذا غلام. ومرة أخري يحذف السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل, وحال يوسف, وكيف ابتهج للنجاة, ليتحدث عن مصيره مع القافلة....الخ
والحقيقة, أنه لم يكن في تعلق يوسف بالدلو أي فجوة نشأت بفعل حذف هذه الحركة من السياق. فالمحذوف هنا ليس هو حركة تعلق يوسف بالدلو, وإنما المحذوف هو جملة( فرأي غلاما).
وحذفت لقطة رؤية الغلام هذه, لأن الفرح والبشري التي في الجملة التي تلتها دلت عليها. فعرفنا من السعادة التي بدت علي أسارير وارد القوم أنها كانت بسبب رؤيته الغلام.
فلم يكن ثمة داع لأن يذكر السياق جملة( فرأي غلاما), وإنما قال من فوره: يا بشري هذا غلام.! أي أن الكاميرا ظلت مع وارد القوم تصور انفعالاته فوق البئر وهو الذي لم يكن يدري أن بالبئر أي غلام, ولم تنزل الكاميرا إلي قاع البئر, لأننا ـ نحن جمهور المشاهدين والمستمعين ـ كنا ندري أن بقاع البئر ذلك الغلام يوسف. بل دلنا الحدس أن إنقاذ الغلام قد أصبح وشيكا منذ أن أرسل القوم واردهم ليبحث لهم عن الماء. وازداد توقعنا بذلك مع رؤيتنا لهذا الوارد وهو يدلي دلوه داخل البئر. إنها تقنية الكتابة للسينما أو هو المونتاج والقطع, وليس بفجوات يتركها سياق السرد أولا.!
فليس هنا أي فجوة كتلك الفترة الزمنية المسكوت عنها من حياة النبي موسي والتي أمضاها في قصر الفرعون منذ أن كان رضيعا إلي أن رأيناه يفض المشاجرة الشهيرة بين أحد أفراد قومه وبين أحد أقباط مصر.
وهي ليست هفوة, كتلك التي يحذرنا منها بعض أهل الفن السينمائي من كونها أخطاء في الحبكة قد تفلت بشكل ما من الكاتب, ولذلك يجب أن يكون هناك حرص علي سد كل فجوة, وربط كل خيط شارد ببعضه البعض وتفسير كل غياب تماما وتبرير كل خروج ودخول تماما, وإدراك أن وجودها لم يكن من أجل سبب مدبر بطريقة واضحة, وأن كل مصادفة تبرر بطريقة تكفي لجعلها مقنعة, وأنه ليس هناك صراع بين ما جري حدوثه وبين ما يحدث في الحاضر وما سوف يحدث في المستقبل, وأن هناك توافقا بين الحوار الحالي والحدث الماضي ـ وأنها لم تترك تساؤلات محيرة في نهاية الفيلم تقلل من قيمة تقدير الجمهور لها.
ثانيا: إشكالية مراودة يوسف:
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه/ وغلقت الأبواب/
وقالت هيت لك/ قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون/ ولقد همت به/ وهم بها.
لولا أن رأي برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب/ وقدت قميصه من دبر/ وألفيا سيدها لدي الباب/ قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم( يوسف ـ الآيات23 ـ25)
كانت امرأة العزيز قد تهيأت ليوسف, بالغواية والإغراء ـ هكذا فجأة من دون أن يذكر القرآن لنا أي مقدمات غزل أو ميل هوي منها تجاهه, لا بد أن هذا قد حدث منها بالطبع, ـ من قبل هذه الغواية في هذا المشهد العاصف ـ وهو المقيم معها في قصرها, وهو الذي قد شغفها حبا بجماله الذي اشتهر به بين الرسل, المهم أن هذه الغواية أو المراودة قد صورت في مشهد واحد من هذه القصة علي أنها قد وقعت بشكل عنيف إلي حد يشبه القنص.!
ما يهمنا الآن في هذه القصة أنها احتوت علي هذه الآيات التي تصف هذا المشهد بما فيه من أشهر إشكالية لبس أوغموض في قصص القرآن بأسره. ولقد احتدم الجدل بين جمهور المفسرين لفك طلاسم هذا اللبس أيما احتدام.. جدل كان فيه ما فيه من محاذير ومزالق. ذلك أن المعني هنا هو نبي ابن نبي. وهو جدل قد يحلو للبعض إطفاء نار جذوته وإنهاؤه بوضع العقل في إسار العصمة المستوجبة لكل نبي.!
ونحن لدينا مثل هذه الغيرة علي مثل هذه العصمة.
لكن لدينا أيضا الحافز علي البحث والتحري.
ولدينا الاستجابة لإطاعة نداء هذا اللبس لفك طلسمه, وتلبية صرخة هـذا الغمـوض الذي يكتنف هذه الآيات, وإلا فلم أبقي الله جل شأنه علي هكذا إشكالية, تمس عصمة ذلك النبي, برغم ما في القرآن من إعجاز بلاغي.!
هو مشهد إغواء عاصف, أحدث بدوره عاصفة من النقـاش الحاد حول:
كيف همت هي به؟
كيف هم هو بها؟
فكيف كان همه هو بها وهو النبي الكريم؟ وهل كان في هذا الوصف إشارة ما إلي الجانب البشري في النبي يوسف؟ وإن كان ذلك, أفلا يتعارض هذا مع كونه معصوما لكونه نبيا؟
استعرض سيد قطب الخلافات عند جمهور المفسرين حول هذه الإشكالية, قدامي ومحدثين. واستند في رأيه علي ما ذهب إليه الزمخشري. والذي يهمنا هنا هو أنه انتهي إلي ما نميل نحن إليه. إذ خلص إلي أن النبي يوسف عليه السلام له ـ كونه بشرـ أن تميل نفسه ويمر بلحظة ضعف إنساني أمام هذه الغواية.
لقد كانت لحظة ضعف توسطت طرفي الموقف فجاءت بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا. هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص, ونتصور الظروف وهو أقرب إلي الطبيعة البشرية وإلي العصمة النبوية.
وما كان يوسف سوي بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي
لحظة من اللحظات. فلما أن رأي برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه, بعد لحظة الضعف الطارئة, عاد إلي الاعتصام والتأبي.
بيد أن تسليمنا بلحظة الضعف الإنساني هذه التي اعترت النبي يوسف لطبيعته البشرية, لا تفك طلسما, ولا تحل لغز ما في هذا المشهد من لبس وغموض. فما أن راودته بدلالها وغلقت الأبواب عليهما, وقالت له: هيت لك. حتي واجهها بعبارات تكفي لاطفاء نار جهنم:
فلقد استعاذ بالله أولا.!
ثم شهد بأن ربه قد أحسن مثواه.!
رابط دائم: