لماذا يا فضيلة الإمام العظيم الشيخ محمد عبده، ومن بعدك يأتى تلميذك الشيخ محمد رشيد رضا ليؤمِن على كـلامك فى رد الكثير من الخوارق والمعجزات إلى مألوف سنة اللـه، وإلى تأويل بعضها ليلائم ما يسمونه المعقول، وإلى الحذر والاحتراس الشديدين فى تقبل الغيبيات، فبالغتما فى الاحتياط بحجة أن تردا إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقول، ومن ثم اجتهدتما فى تنقيته من الخرافات والأساطير والإسرائيليات، حتى أنكما حاولتما تفسير سورة الفيل «ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم فى تضليل وأرسل عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول» وما جرى فيها من اندحار جيش إبرهة الحبشى المعتدى بمنظور علمى بحت كما جاء فى قول الإمام: «وفى اليوم الثانى من هجوم الجيش فشا فى جند إبراهة داء الجدرى والحصبة وهو أول جدرى ظهر ببلاد العرب ففعل الوباء بأجسامهم ما يفوق وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذعر الجيش وصاحبه، وولوا هاربين وأصيب إبرهة فى جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة حتى قدموا صنعاء فلما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات».. ويمضى الإمام عبده في تفسيره العقلانى للسورة التى تروى في طيّاتها المعجزة: «وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدرى أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله اللـه مع الريح» ويتبحر محمد عبده فى التفسير العلمى للحدث الكونى الخارق بالقول: «ويجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذى يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم الذى تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل فى مسامه، فأثار فيه تلك القروح التى تنتهى بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وأن كثيرًا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود اللـه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير ــ الذى يسمونه الآن بالميكروب ــ لا يخرج عنها، وهو فِرق وجماعات لا يحصى عددها إلا بارئها.. ولا يتوقف ظهور أثر قدرة اللـه تعالى فى قهر الطاغين، على أن يكون الطير فى ضخامة رءوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع العنقاء، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها فللـه جند من كل شىء وفى كل شىء له آية تدل على أنه الواحد.. وهذا ما يصح الاعتماد عليه وحده فى تفسير السورة، وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل، إن صحت روايته، ومما تعظم به القدرة أن أضخم حيوان من ذوات الأربع ـ الفيل ــ يهلك بحيوان صغير لا يظهر للنظر، ولا يدرك بالبصر، حيث ساقه القدر، ولا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر!!»..
ونتساءل ونعجب ونرفض لىّ عنق النص من أن يكون الطير الأبابيل بحجارته السجيل مجرد بعوض وهاموش وذباب!!.. لماذا يا سيدى الإمام إصرارك على السُنة المألوفة للناس بينما سُنة اللـه ليست فقط هى ما عهده البشر وما عرفوه، فما يعرف البشر من سُنة اللـه ليس سوى طرفاً يسيرًا يكشفه اللـه لهم بمقدار ما يطيقون، وبمقدار ما يتهيأون له بمداركهم وتجاربهم خلال تاريخهم الطويل على الأرض، وهذه الخوارق هى سُنة اللـه مثل خارقة طلوع الشمس وغروبها، وتعاقب الليل والنهار، والنجوم والكواكب والأقمار المعلقة فى الفضاء، وولادة طفل فى كل لحظة..الخ.. كلها سُنّة مألوفة اعتادها البشر بينما حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر، والأمر فى حادثة الفيل قد جرى على أساس الخارقة غير المألوفة وغير المعهودة، وأن اللـه قد أرسل طيرًا أبابيل غير معهودة، تحمل حجارة غير معهودة، تفعل بالأجسام فعلا غير معهود، ولا داعى هنا للمحاولة فى تغليب صورة المألوف من الأمر فى حادث هو فى ذاته وبملابساته مفرد وفذّ وخارق.. وإذا ما كان العقل فى ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلا أنه فى النهاية محدود بحدود وجودنا البشرى، وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند اللـه، والقرآن صادر عن هذا المطلق، فهو الذى يحكمنا ومقرراته التى نستقى منها مقرراتنا العقلية ذاتها، ومن ثم لا يصح أن يُقال إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل، وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة، وإنما معناه أن العقل وحده ليس هو الحَكَم فى مقررات القرآن.
وفى السؤال ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ فهو سؤال للتنبيه إلى دلالة الحادث الجَلل الذى جعله العرب مبدأ للتأريخ، فيقولون حدث فى عام الفيل، وحدث من بعده بعامين وبعشرة أعوام، والمعروف أن مولد رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم ــ القادم على الأبواب فى هذه الأيام أعاده على المسلمين بالخير والأمان ــ كان بعد حادثة الفيل بخمسين يوماً، فقد وُلد المصطفى يوم الاثنين لاثتنى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من عام الفيل، ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة.. وتستطرد السورة بالاستفهام التقريرى: ألم يجعل كيدهم فى تضليل؟ أى ألم يضّل فكرهم فلا يبلغ هدفه ومقصده وغايته وذهب كيدهم إلى نحرهم، وتكتمل الصورة «وأرسل عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل»، والأبابيل بمعنى الجماعات ـ الموجات والطلعات والتشكيلات والأسراب من جميع الجهات ــ و«سجيل» كلمة فارسية مركبة من كلمتين: الحجر والطين، والعصف هو الجاف من الشجر، ووصفه بأنه مأكول أى مضغه الحيوان فطحنه، وهى صورة حيّة للتمزق، وقد لا يوجد المجال هنا أبدًا بتشبيه الهلاك بمرض الجدرى أو الحصبة، فكـلاهما لا يصيب بهشاشة العظام ليحوّلها إلى قش ورماد وإن كان يودى بالحياة..
عام الفيل.. عام ولد الهدى محمد بن عبداللـه بن عبدالمطلب، فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء، فنبى اللـه سيد المرسلين ورحمة للعالمين دعوة إبراهيم وبشرى عيسى الهادى الشفيع عليه صلاة اللـه وسلامه.. عام الفيل الذى أراد فيه إبرهة حاكم اليمن من قِبل النجاشى فى الحبشة ــ فى الفترة التى خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسى منها ـ هدم الكعبة ليصرف الناس عنها ويحوّلهم إلى «القليس» فى صنعاء وهى كنيسة شاهقة البناء ذلّ إبرهة في بنائها أهل اليمن وجشمهم ألواناً من السُخرة، وكان ينقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام، حيث كان القصر على مقربة من مبني الكنيسة، ومن قسوته على العمال اليمنيين أنه كان إذا ما طلعت الشمس على العامل منهم دون أن ينجز ما طُلب منه تقطع يده من خلاف، وبعدما أتم البناء كتب إبرهة إلى مولاه النجاشى يهنئه: «إنى بنيت لك ما لم يبن مثله لملك من قبل ولست بمنته منه حتى أصرف إليه حج العرب جمعاء وتركهم لكعبة مكة».. وقاد إبرهة جيشاً جرارًا تصاحبه الفيلة وعددها ثلاثة عشر فيلا وفى مقدمتها فيل عظيم يسمى «محمودا» ذو شهرة خاصة عندهم، فتسامع العرب بقصده فاعترضته القبائل ليأسر أشرافها واحدًا تلو الآخر، وعندما بلغ بجيشه «المغمَّس» بين الطائف ومكة بعث أحد قواده الفرسان واسمه «الأسود بن مقصود» حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مئتى بعير لعبدالمطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهّمت لقتاله قريش وكنانة وهذيل، ومن كان بالحرم، ثم أدركوا أنهم لا طاقة ولا مقارنة لهم بقوته وبأس أفياله فتركوا، وكما جاء فى السيرة النبوية لابن هشام، بعث إبرهة رسوله «حناطة الحميرى» إلى مكة ليسأل عن سيد القوم وشريف البلد ليبلغه أن الملك يقول لك: «إنى لم آت لحربكم، وإنما جئتُ لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لى بدمائكم، فإن هو لم يرد حربى فآتنى به» فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش فقيل له: عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف، فلما قال له ما أمره به إبرهة كان رد عبدالمطلب: «واللـه ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة. هذا بيت اللـه الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام.. فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يُخلّ بينه وبينه، فواللـه ما عندنا دفع عنه».. فقال له حناطة: «فانطلق معى، فإنه قد أمرنى أن آتيه بك، فسافر معه عبدالمطلب حتى أتى المعسكر فسأل عن «ذى نفر» الذى كان قد أسره إبرهة، وكان صديقاً له، حتى دخل عليه فى محبسه يسأله: «يا ذا نفرد هل عندك من غناء (توصية) فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: «وما غناء رجل أسير بيدى ملك ينتظر أن يقتله غُدوًا أو عشيّاً، ما عندنا غناء في شىء مما نزل بك إلا أن أنيساً سائس الفيل صديق لى، وسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعظم عليه حقّك، واسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك»، فقال حسبى منك ذلك.. فبعث ذو نَفْر إلى أنيس قائلا: «إن عبدالمطلب سيد قريش، وصاحب عِير مكة، يطعم الناس بالسَّهل، والوحوش فى رءوس الجبال، وقد أصاب له إبرهة مئتى بعير، فاستأذن له عليه، واشفع له عنده بما استطعت»، فقال: لك ذلك. فكلم أنيس إبرهة فأذن له.. ويروى ابن اسحق ما جاء فى ذلك اللقاء: «كان عبدالمطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه إبراهة أجلّه وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره ــ فى نفس الوقت ـ أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير مُلكه، فنزل إبرهة عن سريره وجلس على بساطه وأجلس عبدالمطلب إلى جانبه، ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ فقال: حاجتى أن يردّ علىّ الملك مئتى بعير أصابها لى.. فلما قال له ذلك، قال إبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتنى حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتنى، أتكلمنى فى مئتى بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمنى فيه! قال له عبدالمطلب: إنى أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت رباً سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع منى، قال: أنت وذاك.. فرد إبرهة على «عبدالمطلب» الإبل، وانصرف عبدالمطلب إلى قريش فأخبرهم بالخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز فى شَعَف (رءوس) الجبال وفى الشِعاب (المواضع الخفية) تخوفاً عليهم من شدة الجيش وقسوته، وذهب يأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفرُ من قريش يدعون اللـه ويستنصرونه على إبرهة وجنده، وأنشد عبدالمطلب:
«لا هُمّ (اللـهم) إن العبد يمنع رَحْلَه فامنع حِلاَلكْ (بيتك)
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك»
ثم ترك عبدالمطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما إبرهة فاعلٌ بمكة إذا ما دخلها.. فلما أصبح إبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وعبأ جيشه فلما وجهوا الفيل إلى مكة برك لا يدخلها، وجهدوا فى حمله على اقتحامها فلم يفلحوا، فضربوا فى رأسه بالطبرزين (فأس من حديد) ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن (عصيان معوّجة فى طرفها حديد) لهم فى مراقه (أسفل بطنه) فبزغوه (أدموه) بها ليقوم فأبى، فوجهوه إلى اليمن فقام يهرول، وهذه الحادثة ثابتة بقول الرسول صلى اللـه عليه وسلم يوم الحديبية حين بركت ناقته «القصواء» دون مكة، فقالوا: خلأت القصواء (أى حرنت) فقال رسول اللـه: ما خلأت القصواء، وما ذاك بخلقها، ولكن حبسها حابس الفيل.. دعوها فإنها مأمورة».. وجاء فى الصحيحين أن النبى عليه الصلاة والسلام قال فى يوم فتح مكة: «إن اللـه حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».. وفى سورة الفيل كانت إرادة اللـه العلى القدير أن أرسل على المغيرين على مكة جماعات من الطير مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر فى منقاره، وحجران فى رجليه، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك فخرجوا يتساقطون فكان ما أراده اللـه من إهلاك الجيش وقائده إبرهة الذى أصيب فى جسده لتسقط أنامله أنملة أنملة (عقلة) حتى إذا ما قدموا به صنعاء مات وقد انشق صدره عن قلبه... وفى قول ابن اسحق: «حدثنى عبداللـه بن أبى بكر عن عمرة ابنة عبدالرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية التى تربت فى حجر السيدة عائشة رضى اللـه عنها فحفظت عنها الكثير ومنه قولها: «لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس».. وقال ابن اسحق: فلما رد اللـه الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم من النقمة، أعظمت العرب قريشاً، وقالوا: هم أهل اللـه، قاتل اللـه عنهم وكفاهم مئونة عدوهم.
ولأنها مصر المحروسة هبة النيل التى وصف رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم جنودها بأنهم خير أجناد الأرض، وقال فيها عمرو بن العاص: «رجالها غُلب وأرضها ذهب ونيلها عجب»، وقال بلسانها حافظ إبراهيم:
أنا إن قدر الإله مماتى
لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى
مصر حفظها اللـه فالمعتدى على شعبها وأرضها ومائها لا نصرة له، وغير وارد للآن الإفصاح عن كل البدائل (.....) التى يمكن أن تلجأ إليها مصر إذا ما أغلق أحفاد إبرهة جميع منافذ التفاهم فى قضية أمنها المائى، وإذا ما كان المولى القدير قد بعث فى عام الفيل بالطير الأبابيل وحجارة من سجيل فلن يترك النيل شريان الحياة فيها لمن يخنق مجراه، أو يكبل خطاه، أو يجعله تجارة فيما أعطاه اللـه، وفيما أنزله من ماء لتعمر الأرض ويخضّر الزرع ويحيا البشر.. وقديماً قال ابن مسعود: «لما رمت الطير الحجارة بعث اللـه ريحاً فضربت الحجارة فزادتها شدة فكانت لا تقع على أحد إلا هلك ولم يسلم منها إلا رجل من كندة حارب مع إبرهة فقال:
فإنك لو رأيت ولن تريه لدى جنب المغمّس ما لاقينا
خشيت اللـه إذ قد بث طيرًا وظل سحابة مرت علينا
وباتت كلها تدعو بحق
كأن لها على الحبشان (الأحباش) ديْنا
ولأنها مصر التى ليس لها موارد مائية أخرى بخلاف نهر النيل، ولأنها مصر الحريصة على التوصل إلى اتفاق قانونى ومُلزم واضح المعالم بين دول حوض النيل، فالصبر عندها له سدود وحدود وردود أفعال يصعب الآن البوح بها بعد أن بات لها على الحبشان دينا..
الإعـــــــلام نســــــب
يالهو بالى وضنا حالى وما جرى لى فى غياهب ودروب وحوارى وزقاقات إعلامنا الحالى اللى كان فى زمانه غالى وأصبح لسوء الحظ والطالع فى النازل، لتغدو الهوية والنوعية داخل الشريحة الاجتماعية لامؤاخذة ملطوطة وريحتها طالعة ومتعلّم عليها وغير مرحب بها ومقصية ومنفية وسيئة السُمعة بعدما فُتحت نوافذه على بعضها وهات يا ردح من كل متنقى خيار مع قوائم الذم، وفضح المستخبى على عينك يا تاجر واللي ما يشترى من العيّنة البيّنة يتفرج ويرفع حاجبيه دهشة، ويخبط راسه فى الحيط، ويدق صدره بكفه عجباً، ويذرف له بصقتين على جنب، ويشمئنط ويتضايق ويقلق ويأرق ويقرف موت، ويمكن قبل ما يطق له عرقين يكرمش الجرنال ويلقى به بعيدًا عن القراء والسامعين، ويسك على التليفزيون ويعطى لأبولسان زفر والمتبجحة ظهره ــ دون أن يعطى العُذر لأى منهما في اللوثة والروشة التي قد أصابت كـلا منهما من جرّاء ورم الشُهرة، وحجم الهبرة، وكثرة مداخلات المدح المفبركة سلفاً، والجلوس لساعات طوال لترديد نفس الهرتلة والمقولة وتعليق البعض فوق المقصلة، في مواجهة عيون كاميرات تجيب التايهة في النظرة، والتعليق، واتجاه الريح، ومزاجات السيد ممول القناة ــ ويروح يستنشق له نفسين هواء نقى خارج السرير والكرسى والغرفة والمبنى والمحافظة للحفاظ على البقية الباقية من صحة النظر ونسبة السكر ومؤشر الضغط ومعدل الكوليسترول وسلامة عضلة القلب وسريان الدم فى الشرايين.. يغادر بروشتة طبيب حاذق جميع صنوف الإعلام ليعيش له يومين فى جو هدوء نفسى وسمعى وبصرى وقولونى من بعد الانغماس لقمة الراس غصب عن اللى خلفوه فى زفّة ومهرجانات وموالد قرّب قربّ اقرأ واتفرج وبص بص تلقى معانا العجب من فيديوهات قالوا عليها مشفرة، وتحقيقات مختومة بسرى للغاية، وتسجيلات توقف الشعر، وتسريبات وتصريحات وتلميحات مشينة تدخل صاحبها المعتقل وتحط فى ايديه الكلبشات وتوقفه صدمان عرقان فى القفص، وحجرات نوم بالساتان، وتنويهات بالريش النعام، ولقطات حصرية بالحمالات، وسهرات بالدرابيه والكرانيش مع رشّة تحرش، وخيانات من العيار الثقيل، وسفريات خبيثة الطوية والنية، ومهمات سرية لها طابع العمالة والخيانة والنذالة، وعلاقات من برّه هللا هللا ومن جوّه يعلم اللـه، وسياسات متعاصة إخوان، وتصريحات ملمسة أردوغان، وأواصر قرابة حوثية، وزعامات داعشية، واللي هى هى.... واستغفرت ربى وصليت ركعتين.
وأما بعد.. فبعد أن بسملت وحوقلت وقرأت المعوذتين وتنفست الصعداء وجدت فى عبارتها مبتغاى وأملى ومطلبى وبلوغ مقصدى، وهو أن الإعلام نسب، أى أن أصحاب الأقلام والبرامج والميكروفونات عيلة واحدة تجمعهم صلات الدم، ومن ثم لابد وأن يكون نهجهم ألاّ يعضوا بعضهم البعض، وألا يفرش الواحد لزميله الملاية، ولا يضرب من تحت الحزام، وألاّ يأكل صاحب قلم أو شاشة لحم أخيه حياً أو ميتاً فى جلده فنكرههما معاً.. إن ما نراه الآن للأسف من تحرشات وفواصل ردح فى عشيرة الإعلام يعكس أن الدم بقى ميه، وأن الذبائح للرُكب، والنهش والذم والذبح العلنى مسلسلات لفوق سن الثلاثين مع سبق الإصرار والترصد، ولحم الأشقاء وقع فريسة بين الإخوة الأعداء، وما جاء يوماً من وصايا لأصحاب الأقلام للقلقشندى ــ التى تنسحب على جميع أفراد عائلة الإعلام ــ فى كتابه «صبح الأعشى فى صناعة الإنشا» قد غدا ضرباً من ضروب السخرية التاريخية عندما خاطب الفقيه الجليل الخبير أصحاب القلم فى عام 756هـ بقوله: «حفظكم اللـه يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن اللـه عز وجلّ جعل بعد الأنبياء والمرسلين وبعد الملوك المكرمين أصنافاً، فجعلكم معشر الكتّاب فى أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التى بها يسمعون، وأبصارهم التى بها يبصرون، وألسنتهم التى بها ينطقون، وأيديهم التى بها يبطشون، فليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتّاب.. فتناقشوا معشر الكتّاب فى صنوف الآداب، وتفقهوا فى اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب والفلك والعلوم والدين، وابدأوا بعلم كتاب اللـه عز وجلّ فإن فى ذلك معيناً لكم على ما تصبو إليه هممكم.. وتحابوا فى اللـه عزّ وجلّ فى صناعتكم، وتوارثوا أهل الفضل والعدل من سلفكم.. ويكفيكم أن يُقال: إن الكتابة نسب، وللـه در أبى تمام الذى قال:
إلا يكن نسب يؤلف بيننا أدب أقمناه مقام الوالدِ
أو كما قال الحسن بن وهب: الكتابة نفس واحدة تجزأت فى أبدان متفرقة.. ورب زمن كانت فيه المنزلة الرفيعة لأصحاب القلم، حيث كان الكاتب الفضل بن سهل ــ على سبيل المثال ــ فى خلافة بنى العباس يجلس على كرسى مجنح يُحمل فيه إذا أراد الدخول على الخليفة، فلايزال يُحمل حتى تقع عين المأمون عليه، وإذا وقعت عليه وضع الكرسى ونزل عنه ومشى وحُمل الكرسى حتى يوضع بين يدى المأمون، فيحادثه ويعود ليقعد عليه!!
حضن الشهيد
إلي جوار السويس وبورسعيد المناضلة ودنشواى والمنصورة..الخ.. سيكتب بحروف من نور علي صفحة من نور فى تاريخ مصر المناضلة اسم قرية «الإبراهيمية» التابعة لمركز كفر سعد بدمياط وذلك بعدما قام ابنها وبطلها وراية مجدها المجند «محمد أمين شويقة» بتضحية لم يكتبها محارب من قبل بطول البلاد وعرضها.. المصرية والعربية والعالمية.. وذلك عندما قام بالأمس بلا تردد علي أرض سيناء الوطن باحتضان إرهابى يرتدي حزاما ناسفا والتنائى به بعيدا عن الموقع لينقذ بجسده زملاءه.. وترتفع الزغاريد في وداع عرس الشهيد حبيب اللـه.. هذا في الوقت الذى يحتضن فيه البعضُ الناشز البعضَ الفاسد داخل خيوط مؤامرة الشحن المضاد مع اقتراب ثورة يناير كى لا نحتفى بها وهى التى أطاحت بنظام فاسد، وللأسف حاول اغتيالها الفاسدون الجدد.. وأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..
[email protected]
لمزيد من مقالات سناء البيسى رابط دائم: