حسم الإسلام قضية تقدم المجتمعات ببيان سبل الصلاح وإيضاح أسباب الفساد وما يترتب عليهما من السعادة والشقاء، فقد أراد الله سبحانه وتعالى من الإنسان التفاعل الإيجابي مع الخلق حتى تتحقق عمارة الكون، فإذا ما استيقظ الإنسان عما اعتراه من الغفلة وعرف حقوقه وواجباته تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه ووطنه ودينه وغيَّر ما بنفسه من مظاهر السلبية، فإن الله تعالى يبدل حاله إلى أحسن حال، قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
وهناك نماذج عديدة في القرآن الكريم كانت مثلا للتفاعل الإيجابي الذي يصب في مصلحة المجتمع على كافة المستويات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، ففي قوله تعالى حاكيا عن أصحاب الكهف: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى H وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا H هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، (الكهف: 13- 15).
ما يعبر عن معنى الإيجابية المتفجر في قلوبهم وذلك بعد اتصافهم بالصفات الإيمانية المتغلغلة والمحركة نحو الخير، وهذا هو لبُّ الإيجابية الأخلاقية . كما أن في قوله تعالى في قصة ذي القرنين: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا H إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)، (الكهف: 83- 84)، ما يدل على اتخاذ الأسباب المُمَكَّن فيها الإنسان وتسخيرها لصالح العمران، فقد جاب ذو القرنين مشارق الأرض ومغاربها، متبعًا الأسباب التي مكنه فيها ربه عز وجل، تاركًا أثرا إيجابيًّا عمرانيًّا في كل مكان حلَّ فيه. وهذا هو المقصود الشرعي من خلافة الإنسان في الأرض؛ لأن الله تعالى طلب من الإنسان عمارتها فقال: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود: 61).
وهكذا نرى السلوك الإيجابي الذي يتحقق به العمران وفق مراد الله عز وجل هو المعني المقصود والمهيمن في كثير من آيات القرآن الكريم بحيث يعطي صورة متكاملة نموذجية لحركة الإنسان في الحياة، وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النموذج في حياته كلها والتي مثلت عطاء متكاملا في الأحوال كلها بما يعطي النموذج الإيجابي لكل فرد منا؛ اقتداء به صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب:21).
إن هذه الصورة المشرقة من السلوك الإيجابي هي التي تبني المجتمعات وتغير الجوانب السلبية فيها فتكون قوة دافعة إلى التقدم والازدهار، ولهذا حذرنا الإسلام من الانسياق وراء السلبيات والانزواء والتقوقع وعدم اتخاذ المواقف الإيجابية حيث ينبغي أن نكون في هذه المواقف؛ ففضلا عما ذكرناه من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تكونوا إِمَّعَةً، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا.
إن السلبية هي بداية السقوط والتأخر عن الركب، ولهذا فإن المجتمعات التي يغلب فيها السلوك السلبي على الإيجابي هي معرضة للخطر، ومن نماذج القرآن الكريم، قوله تعالى في سورة الكهف: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا)، إلى قوله تعالى حكاية عن صاحب السلوك الإيجابي:(لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)،الكهف: 32- 38. فإن صاحب تلك الجنتين قد تعالى بما يملك من مال وولد على من هو أقل منه في ذلك، ونسي أن الذي أعطاه يمكن أن يمنعه أو يسلب عنه ما أعطاه ويهب لغيره، ولذلك فإن هذا التعالي لما أخذ منتهاه ضاع كل شيء وكان السقوط مصيرا له حتى يفيق، ولهذا لما وقع به هذا المصاب وفَقَدَ جنتيه.
وإذا كانت قصة الرجلين تعطي نموذجا لذلك السلوك السلبي في الجانب الأخلاقي في التكبر والتعالي على الخلق بما رزق الله تعالى، فهناك نموذج آخر للسلوك السلبي في الجانب الاقتصادي حكاه القرآن في قصة أصحاب الجنة، أي: الحديقة، في قوله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ H وَلَا يَسْتَثْنُونَ H فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ H فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) القلم:17- 20. حيث مثَّل منع الحقوق الثابتة لأصحابها في المال مصدر دمار لهذا المال، ولو أدرك هؤلاء أن المنفعة والمصلحة إنما تعود عليهم لأدوا الحقوق في وقتها؛ إذ تثبت الدراسات الاقتصادية أن وسائل إنفاق المال للفقراء والمساكين إنما تمثل حركة للمال وتداولا له يعود نفعه في النهاية على المنفقين بل على المجتمع كله.
إننا في مرحلة تحتاج فيها الأمة المصرية للتكاتف وأن ينحي كلٌّ منا ما قد يعتريه من سلبيات وتحويلها لطاقات إيجابية تساعد على النهوض بهذا البلد المبارك، في شتى المجالات المختلفة، حتى تستعيد الدولة بأهلها دورها الحضاري التي تميزت به عبر العصور ، حفظ الله مصر من كل مكروه وسوء