حيث أداه وما زال يؤديه معظم الشعراء الشعبيين، وفى كتابه «موال أدهم الشرقاوى» يتتبع د. يسرى العزب ما يحمله هذا الموال من ظواهر جمالية ودلالات موضوعية ونفسية واجتماعية، حيث أجرى دراسته على رواية من الروايات المتعددة للموال وهى رواية محمد الشامى التى رأى الشاعر أنها أكثر انضباطا وملاءمة لدراسته عن غيرها من الروايات. وفى هذه العجالة عرض مختصر لأهم ما جاء فى الكتاب.
د.يسري العزب
يختلف مضمون موال «أدهم الشرقاوى» عن حقيقة الحدث التى عكستها الصحف التى تعاملت معه على أنه أحد الأشقياء الخارجين عن القانون فى بدايات القرن العشرين ، بينما يحكى الموال عن أدهم الذى كان تلميذا بالمدرسة فى سن السابعة عشرة حينما تلقى خبر مقتل عمه، فقرر أن يقيم العدالة بنفسه وأن يثأر ممن قتله، وذريعته فى ذلك أن العدل فى بلادنا بطىء، وأن العدالة معطلة، حيث أن البلاد واقعة تحت ظل الاحتلال البريطانى، والبوليس المصرى آنذاك مكبل بأغلال تجعله يعمل فى خدمة الاحتلال أكثر مما يعمل فى خدمة الشعب، فالموال يعكس الواقع دون أن يلتزم به حرفيا. ويبدأ الحدث فى الموال بفكرة «البطل»، فهو منذ البداية «سبع شرقاوى», وذلك كناية عن الفتوة الموروثة عن الأجداد, كالعم الذى يتسبب قتله فى توجيه سيرة أدهم.
منين اجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه؟
شِبْه المؤيًَّد إذا حفظ العلوم وتلوه
الحادِثة اللى جرت على سبع شرقاوى
الاسم أدهم لكين النقب شرقاوى
الولد كان بالمدرسة لما بلغ من السن تمانتاشر
وزال همُّه إلا وجاله الخبر بموت عمه
فضل يعيّط والتلاميذ تبكى حواليه
قالوا له: ليه بتبكى يا أدهم وأصل البُكا إيه؟
قال لهم: عمى يا رفاقة انقتل وانا فى البلد صَنْعتى إيه؟
وراح فى البلد وقال: حاسْ عَدّونى
والا على بيت العدو دِلونى
وراح على ابن العدو فسَّخُه بإديه
وقتل اتنين من اللى كانوا قاعدين حواليه
فالشاعر الشعبى وضع اللبنة الأولى فى بنية الموال بتحديد ملامح البطل، ويقوم الموال على تحريك النخوة فى البطل فور تلقيه الخبر، ويضعه فى موقف درامى شديد الإحكام حيث يواجه قاتل مجهول لا يعرفه ولكن يجب أن يثأر منه.
وفى السجن الذى اقتيد إليه لتنفيذ الحكم، راح منذ الوهلة الأولى يستعرض قوته على المساجين، عاقدا العزم على الإيقاع بقاتل عمه إذا كان بينهم:
وراح على السجن وقال: حاس عدونى
وهاتوا كبار المساجين يسارعونى ( أى : يصارعونى)
عشرة لعشرة شلتهم لشالونى
واللى تَهَمتُهم الكل يدلونى
و»حاس» كلمة تقال فى الاستدعاء والاستجلاب يصيح بها أدهم بين المجرمين طالبا المبارزة من أقواهم، ويزن الشاعر الشعبى البطل بعشرة من كبار المساجين لتتأكد قوته.
وبعد هذا النداء يستعرض المجرمين لمعرفة قاتل عمه، ولا يكتفى بقتله:
ما كفهوش موته قام فسَّخُه بإديه
والبطل الشعبى شريف –بالضرورة- لا يطعن خصمه خفية، بل يطعنه فى مبارزة مع أعتى الأنداد وعلى مرأى من الجميع، وهو أيضا مؤمن بالله الموجود فى كل زمان ومكان والشاهد المُطَّلع على كل شئ.
جات الحكومة: يا أخى يا أدهم عملت كده ليه؟!
قال لها: يا حكومة لما انقتل عمى عملتى إيه؟!
ده انا قلت يا حكومة وانا فى سجنكم موجود
والرب موجود ومش عاوز بَيِّنة وشهود
حُكِم على الولد فى الزنزانة انفرادْ له
الولد كان رفيع الوِسْط سبحان خَلَّاقُه
إنتنى وانفرد فى الزنزانة هدّ أركانها
ونطّ م السجن حتى الصول لم شافه
ويستمر الشاعر الشعبى فى تفصيل بطولات «الأدهم»: فهو يمتلك جسدا قويا مرنا يمكنه من فتح ثغرة فى الزنزانة تسلل منها إلى الخارج بخفة دون أن يلحظه أحد.
وتتوالى حيل البطل الشعبى «المعتادة», وكانت الحيلة الأولى عندما ارتدى بدلة الحكمدار وذهب إلى مركز إيتاى البارود مع مجموعة من زملائه الذين ارتدوا ملابس الضباط والجنود فكان موكبا هز المراكز هزا:
لبس حكمدار وراح تبه البارود هزُّه
وقال: يا مأمور لِمّ غفرك وعساكرك
هات منهم السلاح وبكرة ييجى لك سلاح جديد
لَمّ منهم السلاح حتى سلاح العُمَد لم خلُّوا
شوف من جرأة الولد على الورق علِّم
خد السلاح وراح إداه لعِزوِته ورجاله
وتلجأ الحكومة لتدبير مكيدة للإيقاع بهذا الذى حيرها وأرهقها فى ملاحقته، وكان التدبير هو إغراء أعز أصحابه (الذى كان فى الحقيقة عسكريا من أفرادها) بالترقية إلى رتبة أعلى، ومنحه من المال ما يكفيه طول العمر.. وبدأ تنفيذ المكيدة:
راح على الجبل وقال: صباح الخير عليك يا باشا
دانا جبت لك الفطور ونسيت اجيب العشا
قال: يا خوفى يا حبيبى ليكون آخر عشا
والقلب بيحدتْنى إن العمر ما بقاش فيه زيت
قال تعما العيون اللى بالأذى ترائيك
ازاى يصيبك أذى وانا بالعيون مراعيك؟
وهُم فى الكلام والعسكرى المَعهد بضرب النار
داس التتك طلع النيشان صايب
وتتوالى الطلقات التى تصيب جسم الادهم، حتى تصيب قلبه، وحتى فى لحظات الاحتضار يُعدد البطل الشعبى مرات انتصاره:
وان عشت يا حكومة وانا واخد عليكى تلاتة نيشان
أول نيشان سلاح منك ولمِّيت
تانى نيشان يا حكومة بالشمع ونوَّرت لك البيت
تالت نيشان يا حكومة فى طريق تانى لفيت
عربى فرنساوى وكل لسان كلمتك
وقلت لك أنا الأدهم ولا فهمتيش
وينهى الراوى موَّاله بخاتمة يعود فيها إلى الإيقاع الأول وتتكرر القافية الأولى فى خطاب موجه إلى الجمهور بشكل مباشر:
يا قاعدين كلكم وحِّدوا الإله يا هوه
دى الحــــادِِثة اللى جرت على سبع شرقاوى
داسوا عليه الرجال قتلوه
منين اجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه؟
وهكذا فإن الموال كله عبارة عن رحلة الأدهم فى البحث عن قاتل عمه، وكمعظم الملاحم الشعبية لا يقع البطل فى النهاية إلا بفعل خيانة من أحد المقربين إليه، فلولا خيانة صديقه لما وقع الأدهم.
------------------------------------------------------------------------------------
أدهم الشرقاوى الحقيقى
أدهم الشرقاوي
تختلف قصة حياة أدهم الشرقاوى الحقيقية عن تلك التى رواها الشاعر الشعبى فى الموال الشهير، فالادهم ذلك البطل الشعبى فى الموال يسمى فى الأواق الرسمية بـ"الشقى" أو "المجرم" بمصطلحات العصر الحديث، فهذا البطل الشعبى ليس هو أدهم الشرقاوى الذى عاش فى أرض الواقع.
وأدهم الشرقاوي اسمه الكامل "أدهم عبد الحليم عبد الرحمن الشرقاوي" ولد عام 1898 في قرية زبيدة مركز إيتاي البارود في محافظة البحيرة
-وليس فى محافظة الشرقية كما يعتقد غالبية الناس- كان ينتمي إلى أسرة من الفلاحين، وتُروى عدة قصص عن ظروف تحول أدهم الشرقاوى من شاب عادى عمره 18 عاما إلى أحد المطاريد المطلوبين من الشرطة، فهناك من يشير إلى أنه سعى للثأر من قاتل عمه، بينما تقول رواية أخرى أنه أصبح مجرما بسبب عمه، ولكن ليس طلبا للثأر من قاتله، بل كتحدٍ له، حيث كان عمه عمدة للقرية، وأراد أن يثبت أنه ليس جديرا بهذا المنصب، فقام بتشكيل عصابة من المجرمين وأشاع الفوضى فى القرية بالسرقة والقتل، بينما تقول رواية أخرى إنه كان يقاوم الإنجليز ويسرق من الأغنياء ليعطي للفقراء، ولكن لا خلاف بين كل هذه الروايات على أنه مات مقتولاً على يد البوليس يوم 13 أكتوبر عام 1921 وكان عمره 23 عاما فقط. وقد أقيم احتفال رسمى بمقتل أدهم الشرقاوى، كذلك تعاملت الصحف المصرية مع حادث قتله بأسلوب احتفالى، فنشرت الأهرام تفاصيل العملية التى نفذها البوليس وانتهت بقتله تحت عنوان "سلطان الأشقياء ومصرعه"، فأشارت إلى أن أدهم الشرقاوى هو المسئول عن كل حوادث القتل والسرقة التى شهدها مركز إيتاى البارود مؤكدة أن الجميع سيشعرون بالأمن بعد مقتله، ووصفت كيف احتفلت النساء بالخبر السعيد بالزغاريد، بينما كان الموضوع الرئيسى بجريدة "اللطائف المصورة" هو تفاصيل عملية قتل أدهم الشرقاوى تحت قائلة "مقتل المجرم الأكبر الشقى الطاغية أدهم الشرقاوى بعد أن طارده رجال الضبط والبوليس واصطادوه فأراحوا البلد من شره وجرائمه".. ونشرت صورة لثلاثة من رجال البوليس وقالت إنهم اشتركوا فى القضاء على الشرقاوى.
وتعبر التفاصيل التى نشرتها "اللطائف المصورة" عن حياة أدهم الشرقاوى طبقا لما لما تحمله ألأوراق الرسمية عنه، فقالت: "مات عن 23 عاما بعد أن دوّخ الحكومة المصرية نحو 3 سنوات، وفى 1917 ارتكب حادثة قتل وهو فى سن التاسعة عشرة، وكان عمه عبد المجيد بك الشرقاوى عمدة قرية «زبيدة» أحد شهود الإثبات، وحكمت المحكمة على أدهم الشرقاوى بالسجن 7 سنوات مع الأشغال الشاقة فأرسل إلى ليمان طرة، وفى الليمان ارتكب جريمة قتل أخرى وحُكِم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، لكنه هرب من السجن واختفى فى مكان ما فى قريته، وهناك انضم إليه عدد كبير من الأشقياء فكون منهم عصابة وأخذ يرتكب الجرائم العديدة من قتل وسطو ونهب، وكان يتم استئجاره لارتكاب جرائم القتل مقابل المال، فقتل الكثيرين وكان منهم خفير نظامى بعزبة خلجان سلامة وشقيقه الشيخ أبومندور وهو من أعيان المركز وآخرون، ثم أخذ يهدد العمد والأعيان ليبتز منهم مبالغ طائلة مقابل المحافظة على أرواحهم فكانوا ينفذون ما يطلب خوفا من بطشه، ونجح الجاويش محمد خليل فى أن يطلق عليه رصاصتين فسقط قتيلا ووجدوا معه نحو مائة طلقة وخنجرا".
ومع اختلاف القصص الواردة عن حياة أدهم الشرقاوى، فإن شخصيته كانت ملمهة لصناع السينما والأعمال التليفزيونية، فقدمت الشخصية أكثر من مرة سينمائيا وتليفزيونيا حيث تناولها المؤلفون كلٌ على حسب الرواية التى ظن أنها قصة حياته الحقيقية.