لم يتصور أحد في بر المحروسة ما حدث...فكل من كان يروح ويغدو في شارع بورسعيد و شارع محمد علي و تأخذه قدماه إلي ميدان باب الخلق لم يكن يخطر بباله أن يتغير يوما ذلك السيناريو المعتاد.
الجدود عاصروا الأمراء والسلاطين وساري عسكر الفرنسيس وحركة عرابي والفلاحين و ثورة1919 ثورةالأفنديات والمعممين وقرارت الدولة المصرية في زمن الرئيس جمال عبد الناصر والسادات. أيام وتاريخ جعل من متحف الفن الإسلامي ودار الكتب المصرية و المساجد والأسبلة الأثرية ليسوا مجرد حجر. فمع مرور السنين انقلب الحجر إلي بشر يعيش ويتنفس. ولهذا لم يكن ضمن سقف التوقعات أو حتي منتهي سوء الظن أن يحطم انفجار عابر كل هذا التاريخ.
و باب الخلق هي الأرض البعيدة التي تخرقها الريح. والكلمة حرفت من خرق إلي خلق. وقد بدأت كما كتبت د. سعاد ماهر في القاهرة القديمة وأحياؤها ساحلا وموردا للسقايين في أيام الفاطميين, واستمر الحال حتي أقام الملك الصالح نجم الدين أيوب آخر حكام الأيوبيين في مصرميدانا عرف باسم الميدان السلطاني.
وبسرعة شديدة عمر المكان وكثرت البنايات نتيجة حب المصريين للاستقرار وكثرة العيال. فلم يجد الملك الصالح بدا من إنشاء قنطرة باب الخرق علي الخليج المصري لتتسع الدائرة حتي أصبح المكان في زمن المماليك إمتدادا رحبا بين منطقتي ميدان السيدة زينب وميدان باب الخلق. وإن تغيرت ملامح ذلك المشهد قليلا بعد ردم الخليج, فلم يبق بالميدان الا ضريح سعادة وهو غلام للمعز لدين الله كما يذكر المقريزي في خططه التوفيقية.
هكذا كان علي المصريين الا يتركوا هذا المكان دون سكان جدد. وعندها فكرت الدولة في جمع التحف الفنية المتناثرة في المساجد والمباني الأثرية لحفظها في الإيوان الشرقي من جامع الحاكم بأمر الله تحديدا في عام1880 ليصبح في زمن قصير متحفا أطلق عليه اسم دار الآثار العربية, وبعد سنوات يضيق المكان ليقع الاختيار علي باب الخلق عام1903, ليتغير الأسم عام1952 ويصبح متحف الفن الإسلامي, حيث إن هناك تحفا وقاعات خصصت للفن التركي والفارسي والهندي مضاف إليهم مجموعة رالف هراري المعدنية المتفردة و مجموعة الدكتور علي باشا إبراهيم رائد طب القلب في مصر.
و الفكرة كما يشير د. عاصم رزق صاحب موسوعة أطلس العمارة الاسلامية والقبطية في القاهرة كانت إقتراح من المهندس سالزمان قدمه للخديوي إسماعيل عام1869 ضمن جملة مقترحات نفذها الخديو. ووقتها كلف الخديو فرانتز باشا مدير القسم الفني في نظارة الأوقاف المصرية بتحويل الإقتراح إلي واقع. وبالفعل خصص بناء حكوميا للتحف الا أن هذا التكليف لم ينفذ الا بعد هذا التاريخ بإثني عشر عاما ثم صدر مرسوم بتشكيل لجنة لحفظ الآثار العربية ليتولي الاشراف علي المتحف هرتس بك ومن بعده مصريون أمثال علي بك بهجت وأحمد بك السيد ود. زكي حسن.
ومنذ البداية تقرر للمتحف اعتماد مالي لشراء التحف إضافة إلي الحق في القيام بأعمال التنقيب في المواقع الأثرية المختلفة منذ عام1910 كحفائر درنكة جنوب غرب أسيوط التي كشفت عن مجموعة من المنسوجات. وقد وصل عدد هذه التحف- والعهدة علي دليل الآثري د. محمد مصطفي الذي حدد القطع الموجودة بالمتحف7028 قطعة عند الافتتاح.
وأما الكتبخانة أو دار الكتب فقد ولدت هي الأخري في سبتمبر1870 في سراي مصطفي فاضل بدرب الجماميز بعد صدور الأمر العالي إلي علي باشا مبارك ناظر المعارف في بداية نفس العام بجمع المخطوطات والكتب المهمة لتأسيس أول دار للكتب المصرية. وبمرور ستة عشر عاما وجدت الحكومة أن المكان يضج بالازدحام.
فسيناريو الازدحام غالبا ما يتكرر في مصر التي تعرف لعبة الحوار الحضاري ولهذا لا عجب من تزامل دار الكتب ومتحف الفن الاسلامي. فالمتحف يمنحنا فرصة التوقف عند تاريخ الدول المستقلة منذ عهد الدولة الطولونية التي كانت أول محاولة للخروج بتخريجات جديدة للفن الإسلامي في مصر و شهدت الزخارف الجصية الجميلة في البيوت, وزخرفة الأخشاب المحفورة ونسيج الحرير والكتان الذي عرفته مصر في العصر الفاطمي و الأيوبي و إبداع التحف النحاسية المطعمة بالذهب والفضة والمشكاوات الزجاجية والمشربيات المميزة لدولة المماليك.
فللخط العربي و الكراسي و الشمعدانات والمصنوعات الجلدية والزجاجية والطراز الأموي والعباسي والخزف المصري والمنسوجات وكل ما يضمه البيت المصري ويستخدمه الناس في الأسواق تاريخ.
رب ضارة نافعة:
ولهذا يتكرر السؤال... هل يمكننا أن نبحث عن سبيل لحفظ كل هذه التحف. فالتأمين وكما قال لي د. حسني نويصر أستاذ الآثار الاسلامية غير متاح.فهي عملية مكلفة جدا وبالتالي لا يوجد متحف مؤمن عليه بشكل رسمي. وإن كانت هناك بعض القطع يؤمن عليها عند الخروج في معارض و لكنه تأمين وقتي. وتدمير المتحف خسارة كبيرة لتراث المصريين وخاصة أن بعض هذه القطع تعد مرجعا في الفنون الاسلامية و مسجلة ومعروفة علي مستوي العالم, واختفاؤها يمثل شرخا كبيرا في التاريخ. وإن كان يمكننا ترميم الأخشاب والزجاج, أما الأعمال الجصية فمن أصعب القطع التي يمكن ترميمها.
ولكن رب ضارة نافعة ففي وقت سابق قرر فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق أن ينقل مجموعات لخدمة المتاحف المتخصصة. فأرسل مجموعة إلي متحف الخزف بالزمالك و متحف النسيج بشارع المعز, وكانت الخسارة ستكون أفدح لو أنها كانت جميعها في نفس المكان. والغريب أنه عندما أعيد ترميم هذا المتحف أعيد فرشه بشكل غير متخصص. فكل متحف له دليل ولابد من الالتزام به. أما ما قيل عن سرقة بعض القطع فمن يحدد قطعا معينة موجودة في السجلات ويثبت فقدها فعليه أن يعلن هذا, وأيضا عليه أن يعرف إذا كانت موجودة في المنطقة التي تعرضت للتدمير في المتحف أما أنها من المناطق الخلفية وتكون بالفعل سرقت.
السقف المعلق:
ولكن هل يقتصر التدمير علي المتحف ودار الكتب فقط فمشكلة القنابل التي تعمل علي تفريغ الهواء أنها وكما يقول د. محمد حسام أستاذ الآثار الاسلامية بجامعة القاهرة تؤثر علي منطقة تاريخية عريقة خلف مديرية الأمن في منطقة تحت الربع ودرب سعادة وجامع البنات. كما أن المبني نفسه آثري و يطل علي شارع بورسعيد والخليج المصري. وهذا الشارع قد تعرض للهبوط لوجود مياه جوفية في المنطقة. وعندما تم ترميم المتحف الاسلامي استحدثوا السقف المعلق وأسفله توجد فاترينات المعروضات والنجف المملوكي الذي يصل وزنه إلي الطن وهذا يسبب مشكلة. ووقتها اعترضنا فاعتبروا ما نقول مجرد انتقاد. ونحن في حاجة إلي تأمين واستشارة هندسية لأن الزلزال والمياه الجوفية يمكن ان يؤثرا علي المكان وخاصة أن منسوب النيل ارتفع بعد السد العالي.
و أطالب المصريين بالتبرع لترميم المتحف الاسلامي, فلدينا في المجلس الأعلي للآثار مرممون علي أعلي مستوي ولكنهم في حاجة إلي أدوات ومواد كيميائية. فإذا كنا اكتتبنا لبناء تمثال نهضة مصر في زمن سعد زغلول فلماذا لا نفعل هذا الآن؟!
مأساة في دار الكتب:
وفي دار الكتب لا يدل المدخل علي مدي التدمير. أما الداخل فصورة أخري. فصحيح كما قالت د. إيمان عز الدين مديرة دار الكتب بدار الخلق إنه تم إغلاق المكان بعد زلزال1992. وصحيح أن الجغرافيا لها كلمتها في كون شارع بورسعيد يضم مدخل دار الكتب الا أن المشكلة أن الناس لا تعي أهمية المكتبة الوطنية التي تضم أكثر من60 ألف مخطوط ومقتنيات الدار تضم أيضا عملات وبرديات وخرائط وأدوات فلكية.وقد أدخلت اليونسكو ثلاثا من مجموعاتنا ضمن مشروع ذاكرة العالم وهي مجموعة الفرمانات ومجموعة المخطوطات الفارسية وأخيرا مجموعة المصاحف المملوكية وكنا نحتفل بها قبل يومين من الانفجار. ورحلة تحديث الدار بدأت من عام2000 وخلالها تم نقل المقتنيات النادرة الا أن ما حدث مفاجأة صعبة التفسير.
والفترينات الموجودة في العرض المتحفي ضد الحريق والرصاص ولكنها بالطبع ليست ضد اطنان من المتفجرات. وهناك7 مخطوطات تأثرت من الانفجار نجحنا في معالجة خمسة منها وبقيت اثنتان تحت العلاج. فوجئت الأجهزة بقوة الانفجار فتعاملت مع المخطوطات بالمياه وكان من المفترض أن يخرج أولا نوع من الغبار. وهناك3 برديات تأثرن وتمت معالجة اثنتين بشكل كامل. والفاترينات وقاعة الاطلاع والميكروفيلم والأجهزة تعرضت للتدمير وامتد الأمر إلي قاعة كبار الزوار بسطح المبني.
وفي جولة أعضاء اليونسكو بالدار كان أكثر ما يشد الانتباه هو وقوف أعضاء الوفد علي كل كبيرة وصغيرة وتصوير ما حدث. فالمطلوب أولا وكما قالت د. ريجين شولوز مديرة أحد المتاحف الألمانية مراجعة كل التفاصيل بعناية وتحديد التدمير الذي حدث في كل مخطوط أو قطعة فنية. فهناك قيمة كبيرة تحملها المخطوطات, كما أن المتحف الاسلامي هو المتحف الأم لكل متاحف الآثار الاسلامية في العالم ومسألة استعادة الحالة الطبيعية لهذه التحف هي مسألة وقت.
حدث في المناصرة:
وفي حي المناصرة الشعبي حدثني الحاج محمد رفعت من سكان المنطقة عن مسجد الأمير حسين الذي بناه ذلك الامير المملوكي وقد فقد نوافذه بفعل الانفجار. و هذه النوافذ ليست أثرية. فأهالي المنطقة والتجار هم من قاموا بتأهيل الأرضيات. وقد منحتهم وزارة الاوقاف فرشا للمسجد. ويعد سقف المكان والقبلة والعمدان قطعا أثرية. فصحيح أن مفتشي الآثار كانوا موجودين في التاسعة صباحا بعد الانفجار وان هناك ترميما دقيقا ولكنهم يريدون أن يروا المسجد كما كان أجمل مسجد في المحروسة.
أما في جامع البنات الذي تنطق تفاصيله بانتمائه لزمن المماليك فقد تعرض18 شباكا أثريا للتحطيم. فالانفجار كان قويا وحدث يوم الجمعة بعد صلاة الفجر كما قال صابر السيد مقيم شعائر بالمسجد لدرجة تحطم الشبابيك في لحظة واحدة. والأكثر من هذا أن الأبواب فتحت وطارت القضبان الحديدية التي كانت تغلق الشبابيك الخشبية. وكل عمارات المنطقة وقعت شبابيكها بفعل الانفجار وتطور الأمر إلي تصدع بعض البيوت علي الرغم من وجود خمسمائة متر تفصل بيننا وبين مديرية الأمن. ولم نجد حلا سوي حمل حطام شبابيك الزجاج المعشق في أكياس بعد تفقد وزير الآثار للمكان.
ولكن ما الحل فهل المشكلة في جهل الناس بقدر التاريخ ام ان المكان المزدحم مفتاح كل أزمة أم أنها أزمة ترتيب أوراق وقراءة طالع مصر ففي رأي الأثري د.خالد عزب أن باب الخلق يعد مكانا لا يستهان به فهو يضم العديد من الآثار وأزمته الحقيقية هي أزمة مكان خاصة أن إحدي مشكلات المتحف والدار وحتي القاهرة التاريخية هي عدم وجود ساحات إنتظار والتكدس المروري. كما أن مشكلة المكان الأخري هي أنه كغيره من الأماكن في بر مصر المحروسة لا يعلن عن أهله. وكثير من العاملين في المتحف والدار علي درجة عالية من الكفاءة مثل د. مصطفي خالد مدير المتحف. فصحيح رب ضارة نافعة فهذا ما شهده الناس قبل صلاة الجمعة الماضية حين وقف د. محمد إبراهيم وزير الآثار, وحدد أن أكثر ما تعرض للتهشيم هو قطع من الخزف والزجاج والأخشاب في حين لم تتأثر قطع النسيج والسجاد والعاج, وأكد د. محمد سامح عمرو سفير مصر ومندوبها في اليونسكو من أنها فرصة للتعرف علي وجه مصر الحضاري في الخارج وما أعلنه الفنان محمد صبحي من فتح باب الاكتتاب لإصلاح ما أفسده الانفجار. نعم هي فرصة من جديد لترتيب الأوراق وقراءة طالع مصر في الاتجاه الصحيح.. ولكن هل نتعلم من الدرس أم نكون مجرد أشخاص ننزعج مما يحدث في بر المحروسة بلا رؤية ولا عمل.
رابط دائم: