في سوق سبايا داعش.. التاريخ كما تكتبه المغتصبات


25-4-2017 | 09:51


منة الله الأبيض ,

في قبضة داعش، يموت الرجال مرّة وتموت النساء مرّات، لكن أي معنى للموت هنا؟ هل يتحقق الموت بإزهاق الروح أم بقدر الألم يموت الإنسان رويدًا رويدًا حتى ينفلت عقد روحه فيتحقق الموت الأكبر؟ليس التاريخ دائمًا يكتبه المنتصرون، أحيانًا يكتبه المنهزمون، يكتبه الجرحى والناجون من القتل، والمغتصبات والهاربات من مخالب داعش.
هنا، في كتاب "في سوق السبايا" للشاعرة العراقية دنيا ميخائيل، الصادر عن دار المتوسط، تتشكل العتبة النصية الأولى من العنوان والغلاف، بحيث يتصدّر المُؤَلّف، غلاف تسوده خضرة التملك، ونساء متوشحات بالسواد، مجبورات على القهر، فوق رءوسهن رمز شريطي كبير "باركود"، في دلالة على السبي وتسليع النساء من قِبل داعش.تمهد الشاعرة لقضية الكتاب من خلال الإهداء كعتبة نصية ثانية، بكلمات شكر، قالت فيها: "شكرًا للناجيات من أيدي داعش؛ لقبولهن التحدّث عن تفاصيل معاناتهنّ، بالرغم من أن الجروح العميقة لا تُحكى، تُحَس فقط. شكرًا للجرحى الذين قُتلوا، ولم يموتوا، عادوا؛ ليحكوا لنا قصصهم. شكرًا للناس في المخيمات؛ لقلوبهم المفتوحة في العراء، كخيمهم. شكرًا لعبدالله، بطل من أبطال هذا الزمان".يقع "في سوق السبايا" في 221 صفحة من القطع المتوسط، تدور في 13 فصلا، تضم مقابلات مع أكثر من 21 امرأة أفلتن من قبضة الدواعش، تحكيها "هن"، أو يرويها للكاتبة "عبدالله" منقذ السبايا، عن طريق شرائهن من سوق السبايا الذي دشنه أفراد داعش، ويكشف أيضًا الهجوم على الأقليّة الإيزيدية، والمسيحيين الذين يُهجّرون من بيوتهم قسرًا، بجرة قلم على أبواب بيوتهن، بشفرة التهجير وهي حرف (ن) بالأحمر. "النون على البيبانخروجهم من البيوتبلا مفاتيحبلا بوصلةبلا كلام"حرف النون هو شفرة التهجير الذي يكتبها الدواعش باللون الأحمر على بيوت الأقباط في العراق والمدن التي يجتاحها، اختصارًا إلى "نصارى"، حيث يمهلهم الدواعش 24 يومًا لمغادرة بيوتهم التي سكنوها منذ 1500 عام، سيتركون أبوابهم مفتوحة، ويديرون ظهورهم لبيوت ستصبح من عقارات الدولة الإسلامية.وحرف النون أيضًا هو الحرف الأول من اسم "نادية"، وهي امرأة إيزيدية جميلة عمرها 28 سنة وأم لثلاثة أطفال، بيعت في سوق سبايا داعش بــ200 دولار لرجل من الشيشان، كان يرغمها على ترديد القرآن وحفظه ويعتدي على أطفالها بالضرب أمامها ويغتصبها أمامهم، تقول نادية ساردة حكايتها للكاتبة: "كان يغتصبني أمامهم وفي بعض الأيام، كان وأصدقاؤه يبادلوننا كالهدايا فيما بينهم، بموجب اتفاق مؤقت، ليوم أو يومين، يسمونه "إيجارًا". الشيشاني الداعشي، كان يعلم أولادها القرآن وربط أسلاك الصواريخ التي يستخدمها للقتال، في مزاوجة تُبرز تناقض فكر داعش وخلله النفسي والفكري.وتكشف الكاتبة بنية داعش التأسيسية في التعامل مع النشء وصغار السن، وتجنيدهم وترسيخ في وعيهم الولاء لعقيدة التنظيم والإيمان به وبأفكاره، فمثلًا "هوشيار" وهو طفل إيزيدي عمره (3 سنوات)، ورولا أخته (7 سنوات)، كان يدربهما أبو جهاد الداعشي الروسي على حفظ القرآن وصناعة أربعة صواريخ يوميًا من مادة تي إن تي، والمواد الكيماوية ويضربهما بالأسلاك في حالة عدم الطاعة، يزرع فيهما سموم المذلة وفكر القطيع بإطعماهما العظام، ويرسم لهما مستقبلًا مظلمًا فيخبر (هوشيار): "عندما تكبر ستقاتل مع داعش"."ليس أنانيًا من يزرع الزيتون"، هو عنوان الفصل السادس من الكتاب، حيث تتكشف عقيدة داعش التي تستند على "نكاح الصغيرات"، ولكن هنا هذه المرة، ليس نكاحا، وإنما اغتصاب الصغيرات، حيث تحاور المؤلفة طفلة عمرها 14 سنة، اسمها "شكريّة"، اشتراها رجل رفض أن يشتريها هي وأختها الكبرى "شكيبة"، وترك أختها في "سوق النخاسة" تتلقى نصيبها الضبابي. "شكريّة"، اشتراها رجل من طاجكستان، وبعد أن سلب منها كل ما تملكه، باعها لرجل تركي اسمه أبو دجّان، أخذها إلى منطقة الرقّة حيث سجنها 45 يومًا، وكان يغتصبها يوميًا، التقط لها صورة وهي عارية، وأجرى صفقة بيع من خلال الصورة، فبيعت للمرة الثالثة لرجل سعودي اسمه أبو فرقان، وبعد 42 يومًا، باعها لرجل آخر سعودي اسمه الدشامي، وبعد 27 يومًا من العنف والاغتصاب باعها لرجل عراقي اسمه أبو حمزة. لا أعلم لسوء أم لحسن حظها، أن أبو حمزة العراقي الذي اشتراها جُرح في القتال ونزف ثم نُقل إلى المستشفى، فانتهزت فرصة غيابه، وهربت، وأثناء طريقها طلبت من امرأة واقفة أمام منزلها لتساعدها، وعندما أخبرتها أنها هربت من رجل اغتصبها وتحاول الرجوع إلى أهلها في شكال العراق، قالت لها: "إذن أنت من الكفار"، واعتدت عليها بالضرب هي وزوجها حتى سالت الدماء من جسدها، وأخيرًا قالت المرأة لزوجها: "لما لا تتزوج هذه الكافرة وتهديها إلى الطريق الصحيح؟"، ثم باعوها لرجل آخر بثلاث ورقات بعد أن اغتصبها بمباركة زوجته.السرد الواقعي والشهادات الحية أبرز ما يميز قلم الكاتبة، فعادة لا يقدم تاريخ الوقائع والأحداث التاريخية الذي يدوّنه المؤرخون والساسة، أصواتا ومشاعر إنسانية لشخصيات عايشت الواقع كما هو وكانت جزءًا من الحدث، أو ربما الحدث ذاته، كما يقدمه لنا التاريخ الشفاهي الذي يرويه الجرحى والناجون مسجلًا بذلك لحظات إنسانية حقيقية.يضعنا الكتاب أمام مأزق مواجهة فكر داعش، وسيبدو شعار "الثقافة في مواجهة الإرهاب" الذي تطلقه وزارة الثقافة المصرية مع كل حادث إرهابي يُخلّف ضحايا، شعارًا رنانًا استعراضيًا وجعجعة فارغة إن اقتصر فقط على "مكلمة" المثقفين والتنديد بالإرهاب، لأن فكر داعش المتطرف غير العفوي بالمرة، لن تدحضه جلسات الإدانة في القاعات المغلقة المُكيّفة بدون رؤية واضحة وخطة طويلة الأمد بالتعاون مع كافة المؤسسات والوزرات المعنية بالفكر، كوزارات الثقافة والإعلام والتربية والتعليم والتعليم العالي ومؤسسة الأزهر والكنيسة. لن تجدي القطيعة مع الشباب، والتنظير دون حوار، ورفض إعادة تأويل الفقه الإسلامي في مواجهة فكر داعش الذي ينخر في ثقافة الأمة العربية ويؤسس لمفاهيمه الشيطانية.