إنه شيطان كبير.. وليس صغيرًا عابرًا


21-4-2017 | 00:18


صبري زمزم,

حينما قرأت عنوان رواية الأديب محسن عبد العزيز "شيطان صغير عابر" تساءلت: ترى ماذا وراء هذا العنوان؟ إنه عنوان قليل الكلمات، لكنه كثير الدلالات، متعدد الاحتمالات، فأثار فضولي، ودفعني إلى أن أقرأ الرواية كاملة في ليلة واحدة، في محاولة لاستجلاء ما وراء هذا العنوان، فوجدته يستعرض فيها حياة طفل مصري صغير، في قرية مصرية في عمق صعيد مصر، في إطار لم يكن فيه هذا الطفل هو كل ما في الرواية، ولا محورها الرئيس، ولكن الراوي بروح الطفل الصغير البريء، الذي يدهشه ما تقع عليه عيناه من شخصيات وأماكن ومناسبات، رصد بعيني هذا الطفل الشقي الذكي "العفريت" دقائق الأخبار ورقائق الأسرار والمشاعر في مراحل مختلفة، نمت مع نمو هذا الطفل الصغير، من مرحلة الطفولة التي عانى فيها مبكرا فقد الأم، إلى مرحلة الصبا وكيف كان يعاند زوجة أبيه، ويصر على أن يناديها باسمها، لا لشيء سوى إغاظتها، وهو برغم تلميحه إلى تصدي أمه لعفرتته وشقاوته وشيطنته التي لا حدود لها ببعض الحسم الذي كان يوجعه، فإنه يشير إلى البون الواسع بين جدية أمه معه، وقسوة زوجة أبيه. ثم ينتقل بنا إلى مرحلة المدرسة، وحبه للقراءة منذ نعومة أظفاره، وإلى معابثاته الصبيانية لزملائه وأساتذته، واعتماده على سرعته في الجري لينجو من عقاب بعضهم، ثم إلى مرحلة المراهقة المبكرة.وكم كان إعجابه بالراقصة التي زلزلت القرية بوقع خطواتها المدهشة، وأدائها الفني الممتع على لحن تصفيقهم الذي ألهب حماسها في تفاعل متبادل بين الفنانة والمتلقين شأن كل فن. ثم محاولاته الغِرَّة الاحتكاك بالفتاة الجميلة المتحررة موضع حديث أترابه من المراهقين وما ناله منها من سب، وحبه لبنت الجيران، وكيف كان أقصى طموحه السير بجانبها في صمت.ثم انتقل بنا إلى المسجد كمسرح لممارسة أحلامه الطفولية المرتكزة على شخصيته الطموحة الراغبة في كل ما هو ممنوع؛ فهو يصر على الصلاة في مسجد لا يستطيع أي طفل من أقرانه أن يقترب منه، لدرجة أنهم لم يصدقوه عندما أقسم لهم أنه دخله وصلى فيه، دون أن يتعرض له شيخ المسجد الصارم مع الأطفال بالزجر، وهو الذي يتصدى لأي منهم إذا حاول اختراق حرم المسجد.ومن خلال تردده على مساجد القرية المختلفة يرصد لنا أنواعًا مختلفة ممن أطلق عليهم في قريته لقب" شيوخ"، فكان بين كل منهم تباين، ففيهم الشيخ الصادق الهادئ الذي يحببهم في المسجد ويجذبهم إلى خطبته، ومنهم الشيخ الزائف الذي ينفرهم بصوته المزعج ويطيل في خطبته بلا جدوى حتى يناموا منه، ومنهم من أطلق عليه هذا اللقب وهو على النقيض منه تمامًا، فكما أنصف صنفًا منهم يستحقون الإنصاف، ندد بغيرهم ممن يستحقون ذلك أيضًا. ثم عرَّج بنا إلى الملعب كميدان مهم للفتوة صغيرًا والرجولة كبيرًا، ومضمار للمنافسة المحتدمة والتحدي بين الصبيان ثم الشباب، وفي هذا الميدان عرض بالوصف الكاريكاتوري لكثير من النماذج التي زاملته أو نافسته فيه، راسمًا صورة شكلية وأخرى نفسية لكل منهم، وقد نسي نفسه كلاعب وشغل بمن حوله، كما تفعل الكاميرا التي لا ترى نفسها، ولكن ترصد كل ما حولها رصدًا وافيًا، تمامًا كما فعل نجيب محفوظ في روايته المميزة "المرايا".ثم سلط هذه الكاميرا على بعض أفراد الأسرة، حيث الأب الصارم مع أولاده، والأم المفقودة التي تاهت ملامحها وغامت صورتها في ذاكرته، وجدته التي كانت بمنزلة الأم في حنانها وعطفها، وسرد قصتها مع جده الذي تزوجها رغمًا عن أهلها فانتقلت للعيش معه في قريته، وسرعان ما مات فظلت وحيدة في قريته غريبة، ثم كيف تألم لموتها وإصراره وإخوته على دفنها مع أمه، ولكن أهلها الذين لم يروهم يومًا جاءوا وأخذوا جثمانها ليدفنوه في قريتهم، فرفضوا الذهاب معهم فلم يشاركوا في تشييعها احتجاجًا على ذلك. وقصة أخيه الذي كان الأول دائمًا، والعبقري في مادة الرياضيات، وبالرغم من ذلك دخل القسم الأدبي بالثانوية العامة بسبب مدرس، كرَّهه فيما كان يحب لتعنته وقسوته معه، وعرض لما تعرض له هذا الأخ نتيجة دراسته للفلسفة في كلية الآداب مما دعاه إلى المناقشة الجريئة والعلنية للشيوخ بالقرية للقضايا الإيمانية الشائكة وطلبه الدليل على صحتها، مما دعاهم إلى وصمه بالكفر والإلحاد، ثم ما هي إلا سنوات من البحث عن الحقيقة، حتى رسا على شاطئ الإيمان وانخرط في التبليغ والدعوة بعد أن كان يشاكس رجالها.وظل الراوي في الرصد حتى وصل إلى منتهاه عندما تعرض لوصف أحد كبار رؤسائه في العمل، فكشف الستر ورفع الغطاء عما كان خفيًا. ليدهشنا ويمتعنا حتى يصل بنا إلى نهاية الرواية، وما كنا نريدها أن تنتهي؛ لسهولة ألفاظه رغم فصاحتها في المجمل، ورشاقة عباراته، وبعده عن الإسهاب والإملال، وعذوبة أسلوبه، الذي اعتمد على تقنية السرد دون الحوار. وأرى أن سر التعلق بهذه الرواية أن محسن عبد العزيز - ذلك القاص الواعد- مس في قرائه وترًا عزف عليه أعذب الألحان، وهو وتر البراءة الذي يجعل القارئ مشدوهًا إلى هذا العالم من منظور طفل صغير، ولكنه في الحقيقة شيطان كبير في الشقاوة والمعابثة المحببة التي يستعذبها القارئ، ويحن إليها، أما كونه عابرًا فهذا هو سر خفته وسبب التطلع إليه، فكم من مقيم تمله النفس وتسأله الرحيل، وكم من عابر خفيف الطلة يتمنى الناس منه مزيدًا من البقاء، وما زلنا ننتظر منه إطلالة جديدة.