يومًا بعد يوم، تُثبت الدولة المصرية أنها تعلم جيدًا إلى أين تمضي، وأي طريق تسلك، وأي أهداف سوف تحققها مهما تكن التحديات والصعاب.
إن استقراء الحالة المصرية، في حقبتي ما قبل ثورة 30 يونيو وما بعدها، وما كان يبدو عليه وضع الدولة، ثم ماذا أصبح، سيكشف سر هذه القوة التي صارت عليها مصر الآن، خلف القيادة السياسية الحكيمة، كدولة مكتملة البناء، محددة الأهداف، مهيبة الجانب، تمثل رقمًا صحيحًا لا بديل عنه فى موازين القوى على الصعيدين الإقليمي والدولي.
فما سر هذه القوة، التي جعلت دولة تصارع من أجل البقاء، في بحر متلاطم الأمواج، من المؤامرات والعبث بالاستقرار، وتبديد الموارد، وتشتيت اللُحمة الوطنية، من عناصر إخوانية، لا تدين بالانتماء لهذه الأرض، تصبح دولة تحتل مقعدًا بين الكبار، وتحرز كل يوم هدفًا إستراتيجيًا على الساحة الدولية، ويقف العالم كله - إلا من كره تقدمنا وأراد سقوطنا - احترامًا لهذه التجربة المصرية الملهمة، وقائدها المدرك لحقائق التاريخ، ووضعية الجغرافيا، وإستراتيجيات الأمن القومي، وميزان القوى الدولية، ومحددات البقاء في المشهد الذي لا يعترف إلا بالدولة القوية على الصعيدين الداخلي والخارجي؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي أولا التوقف عند كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسي، التي جاءت في مداخلته الهاتفية مع الزميل عمرو أديب، مساء السبت، والحقيقة أنني شرعت فى كتابة هذا المقال قبل أن يفاجئنا السيد الرئيس بتلك المداخلة، التى أثلجت صدورنا، وأطلعتنا بشكل مباشر على مزيد من الحقائق، وأكسبتنا مزيدًا من الثقة أيضًا في دولتنا وقيادتها الحكيمة، لكنني وجدت فيها ما كنت أبحث له عن إجابة لهذا التميز المصري فى وقت وجيز فى عمر الأمم وبناء الدول.
لذا فقد جاءت كلمة الرئيس السيسي بأن «قوة مصر نابعة من مؤسساتها وشعبها، وليس من مؤسساتها فقط، ونحن حريصون على أن تهدف كل تحركاتنا إلى بناء السلام والاستقرار»، لتترجم بالمعنى الحرفي سر هذا التميز، الذي بدأ من الداخل المصري، ليمتد إلى الخارج، اعتمادًا على المبدأ الذي أرساه الرئيس السيسي نهجًا لحكمه، وأفصح عنه فى مداخلة السبت بقوله: «الأوضاع الخارجية دائمًا مرتبطة بالأوضاع الداخلية، والقرارات نابعة من الشعب، ومَن يستهدف فهو يستهدف الشعب ولا يستهدفني».
إذن، يمكننا أن نحدد هذا الربط بين الوضع الداخلي المصري والوضع الخارجي، وما بينهما من شراكة، أفرزت سر قوة الدولة المصرية في ثلاثة محاور؛ هي الثقة والاستقرار والسلام.
المحور الأول: ومركزه الثقة التي أولاها الشعب المصري لقائده المنتخب من رحم الإرادة الشعبية، التي صالت وجالت في ميادين مصر، تطلب الخلاص من فساد الإخوان وخيانتهم وإرهابهم، والتحرر من السنة المظلمة التي اعتلت فيها جماعة الشر سُدة الحكم، وعاثت فسادًا فى الأمن القومي، وأرادت بيع تاريخ مصر ومكانتها بثمن بخس في سوق النخاسة التي يسيطر عليها ويرعاها التنظيم الدولي للإخوان.
إن هذه الثقة كانت اللبنة الأساسية في منح القوة لقائد شعبي، تعلم في مدرسة الوطنية والانتماء، وتشرب روح العزيمة والإصرار والتحدي من مؤسسة العسكرية المصرية، وناداه الملايين من أبناء هذا الوطن، وهتفوا باسمه في الميادين، ولذا بات يمضي في سبيله؛ مدفوعًا بثقة الإرادة الشعبية، وحكمة الإدارة السياسية، ليرسم طريقًا يليق بمصر وشعبها، ويكون على قدر الثقة الممنوحة، والأحلام المرسومة، وطموح هذه الأمة الذي لا سقف له ولا حد.
المحور الثاني: وهو الاستقرار، حيث مبتغى كل قيادة، ومسعى كل حكومة في جميع دول العالم، لكن في مصر كانت له خصوصية أيضًا، لأنه ينطلق من أرضية ثقة شعبية مطلقة في إدارة سياسية واعية، هذا الاستقرار كان نتاج العمل بخطة سارت في خطين متوازيين؛ مسار المواجهة ومسار التنمية.
ففي مسار المواجهة، حافظت «دولة 30 يونيو» وقائدها على مصر من السقوط، ومؤامرات حروب الجيل الرابع، ومخططات التقسيم التي رسمها أهل الشر لدول المنطقة، كما اعتمدت مصر فكرة المواجهة الشاملة مع الإرهاب، لتؤمن بيئة خصبة ومستقرة للتنمية، ليس بالمواجهة الأمنية من قبل قوات إنفاذ القانون وحدها، وإنما بتجفيف منابع الإرهاب، وتصحيح مسار الخطاب الدعوي، وإطلاق يد المؤسسات الدينية في هذا المضمار، لتستعيد دورها الذي تغولت عليه جماعات التطرف وتجار الدين في فترة ما قبل ثورة 30 يونيو المجيدة.
وأما المسار التنموي، فقد عبر عنه الرئيس السيسي في كلمات اختصرت كل التفاصيل التي لا تخطئها عين على أرض مصر، ففي حقبة ما بعد 30 يونيو، جنت مصر ثمار الاستقرار، وحكمة الإدارة، وعزيمة الإرادة، في أكبر حزمة مشروعات تنموية كبرى، في جميع القطاعات؛ في الطرق والبنى التحتية والتعليم والصحة والحماية الاجتماعية والطاقة والإسكان والمرافق والزراعة، وغيرها من المجالات التنموية، التي لن يتسع المقام لذكر تفاصيلها، ولا للأرقام القياسية التي أنجزتها، لكن يكفي أن نقول: إن «مصر 30 يونيو» كتبت عهدًا جديدًا في تاريخ المصريين، يعتمد على تصحيح المسارات الخاطئة، واختراق المشكلات المستعصية، وحل الأزمات التي استحالت على الحلول، ومن ثم دشنت مفاهيم جديدة لحقوق الإنسان في العالم، تقوم على استحداث مبادئ مصرية خالصة، غير التي يتشدق بها الغرب وتقارير المنظمات المشبوهة ومدفوعة الأجر، لتقول مصر للعالم أجمع: هذه حقوق الإنسان المصري.. الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية والأمن والاستقرار والحياة الكريمة والعيش في وطن يعمل من أجل الغد، بعيدًا عن ضيق المصالح وحسابات السياسة ورهانات التوازنات وجماعات الضغط.
أما المحور الثالث، فهو السلام الذي نعمت به مصر الواثقة المستقرة، وصاغت به نموذجًا ملهمًا للعالم بأسره، يقوم على الانحياز لسيادة الدول، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وتحفيز المجتمع الدولي على العمل وفق أجندة شاملة لمواجهة قوى التطرف والإرهاب والظلام وأعداء الأوطان، هذا النموذج الذي كان ثمار العمل الدؤوب منذ ثورة 30 يونيو في الشأن الداخلي، وامتد إلى الوضع الخارجي، بترابط وتلازم وخطط مدروسة، وجنت منه مصر خلال الأيام القليلة الماضية ثلاثة مكتسبات:
أولها: اختيار مصر ممثلا لإقليم شمال إفريقيا في عضوية هيئة مكتب قمة الاتحاد الإفريقى لعام 2021، وجاءت تلك الثقة تقديرًا لدور الرئيس السيسي في الاتحاد الإفريقي، وتبنيه الدائم لقضايا القارة السمراء والدفاع عنها، منذ أن تولت مصر رئاسة الاتحاد في عام 2019، والنجاحات التي حققتها مصر على ذلك الصعيد، في دفع العمل الإفريقي المُشترك، والوفاء بأهداف أجندة إفريقيا 2063 للتنمية المستدامة.
ثانيها: انتخاب مصر لرئاسة لجنة الأمم المتحدة لبناء السلام، وذلك للمرة الأولى، بما يكلل جهود الدبلوماسية المصرية، ويدلل على الثقة الأممية والإفريقية في قدرة مصر على مواصلة الإسهام الفاعل في تعزيز دور منظومة بناء السلام بالأمم المتحدة.
ثالثها: استضافة مصر لأول منتدى عربي استخباراي، واختيار القاهرة مقرًا لهذا الكيان الإستراتيجي المستحدث، وهي رسالة للعالم تحمل إشارات متعددة، لا سيما أن مصر لعبت دورًا رئيسيًا في تأسيس المنتدى، وهي انعكاس لرؤية مصر المخلصة لدعم الأمن القومي والاستقرار المحلي والعربي، ومواجهة الإرهاب والتطرف وصور الجريمة المنظمة ومخططات فوضى انتهاك القوانين.
أثق أن الأيام المقبلة ستحمل المزيد من اختيار مصر لتكون رئيسًا ومقرًا وراعيًا ونموذجًا لكل ما يتعلق بالاستقرار والتنمية، وهذا اليقين لا ينبع من فراغ، وإنما من ثقة مطلقة في دولة انطلقت بإرادة شعبية وسياسية، وامتلكت مفاتيح القوة، وعرف قائدها كلمة السر في تقدم الدول، والحصول على مقعد بين الكبار، مهما تتغير موازين القوى.. فمن غير مصر يستحق الريادة والقيادة؟
ما حققته مصر في سنوات قليلة، وفي ظروف صعبة، وفي فترة وباء كورونا، الذي أوقف خطط البناء والتنمية على سطح الكرة الأرضية، أذهل الجميع، منهم من وقف يضرب كفًا بكف يتعجب من النهضة المصرية، ولا يجد لها سرًا، ولكنه لا يملك إلا الشهادة والإشادة.
ومنهم من تبارى في التشكيك والسخرية وزرع الفتن، لعل ما يفعله يجد الصدى الذي يأمله، لكن هيهات أن يستجيب له الشعب الواعي، الذى يرى بأم عينه قائده، وهو يتابع العمل لحظة بلحظة، ويصر على أن تسير البلاد وفق ما رسم وخطط، لا توقفه أزمة، ولا فيروس، ولا إغلاق، ولا يشده للخلف محترفو النكسة والهزيمة والمستسلمون للإحباط، الذين لا يريدون الخير لهذا البلد، ولا يتمنون له أن يرفع رأسه، أو أن يحيا حياة كريمة تليق به، مثل كل شعوب العالم المتقدم.
ويمكن القول: إن الرئيس السيسي نجح في رهانه على الشعب ووعيه، بالقدر نفسه الذي نجح في أن يشركه في كل كبيرة وصغيرة، يمد يده إليه طالبًا أن يشارك، وأن يستثمر، ويبني، ويعمر، ولم يخلف الشعب وعده لقائده، ولم يعط آذانه لمن يريدون أن تعود أيام الهوان، وكيف للشعب الواعي الأصيل أن يخلف وعد قائده، وهو يراه يتقدم الصفوف، ويبذل كل ما في وسعه من أجل غد أفضل، ليس لفئة، ولا لعشيرة، ولكن لكل المصريين في ريف مصر وحضرها، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.
وخلاصة القول أن الرئيس السيسي انتهج الصراحة مع الشعب منذ اللحظة الأولى، ونفذ كل ما جاء في حملته الانتخابية، وطرق كل الأبواب المغلقة، واقتحم أزمات ومشكلات، كان الدخول إليها من رابع المستحيلات، من التصالح على مخالفات البناء، إلى توفير تطوير قرى الريف، وتقليل حجم النمو العشوائي، إلى مشروعات قومية عملاقة غير مسبوقة توفر حياة كريمة، إلى تطوير قطاعات النقل والصحة والتعليم، ونهاية بإعادة مصر إلى مكانتها الطبيعية إقليميًا وقاريًا ودوليًا.
وأختم فأقول: إن الرئيس السيسي قال إن قوة مصر نابعة من الشعب ومؤسسات الدولة، ولكنها، يا سيادة الرئيس، نابعة أيضًا من قيادتكم الحكيمة، وعملكم الدؤوب، وشخصيتكم القيادية، وحبكم لبلدكم، وتضحياتكم من أجله، وما تم إنجازه، فيما يشبه الإعجاز خلال سنوات قليلة، فقد صدقتم شعبكم، ووفيتم بكل ما وعدتم، برغم قسوة الظروف وصعوبتها اقتصاديًا بعد الآثار المميتة لتفشي فيروس كورونا منذ أكثر من عام في العالم أجمع.