هناك أزمة شديدة تعانى منها لغتنا العربية لغة القرآن الكريم وإحدى أهم حصون الثقافة العربية.. وهى تاج تفخر به الأجيال عبر تاريخ طويل من الإبداع الراقى والعطاء الجميل..
< إن اللغة العربية تعانى ظروفاً صعبة منذ سنوات وكلنا يعلم الظروف التى كانت سببا فى انهيارها.. ابتداء بالأسرة ومواقفها السلبية وانتهاء بمناهج التعليم.. إن القضية لا تحتاج إلى تفاصيل كثيرة لأن الصورة واضحة أمام الجميع .. نحن أمام لغة تمتهن كل يوم من أبنائها رغم أن هناك أكثر من ٤٠٠ مليون يتحدثون هذه اللغة.. ولا أدرى أين مشروع القانون الخاص بإنقاذ اللغة العربية الذى تقدم به مجمع اللغة العربية إلى مجلس النواب وما هو مصير هذا المشروع..؟
< إن على رأس المجمع الآن واحدا من فرسان العربية وعشاقها الكبار وهو الناقد والمفكر الكبير د. صلاح فضل.. وأنا على ثقة أنه سيتابع مشروع القانون مع المسئولين فى مجلس النواب وفى مقدمتهم رئيس المجلس المستشار حنفى الجبالى.. إننا نعلم كل الأسباب التى تحيط بأزمة اللغة العربية.. نعلم أن مناهج اللغة العربية فى كل مدارسنا دون المستوى.. وأن دراسة اللغة العربية قد تراجعت منذ سنوات.. وأن هناك ما يشبه المؤامرة حول موقف المؤسسات التعليمية فى العالم العربى التى لم تعد تهتم باللغة العربية مناهج وتدريساً واهتماماً ورعاية..
< إننا نعلم أن الأسرة العربية لم تعد تهتم باللغة العربية حديثاً أو حواراً بين الأبناء وداخل الأسرة.. إن الآباء الآن يفتخرون أن أبناءهم يتحدثون اللغات الأجنبية ولا يتحدثون العربية وكأنهم يخجلون من لغتهم.. إن الأخطر من ذلك أن المدارس الأجنبية فى العالم العربى الآن لا تقوم بتدريس اللغة العربية ضمن مناهجها ولا ادرى كيف تقبل الحكومات والمؤسسات التعليمية مثل هذه الإهانات للغة القرآن الكريم..
< هناك دول عربية الآن لا تسمع فى شوارعها كلمة عربية واحدة وتطاردك فيها جميع اللغات الأجنبية.. وتتعجب كيف سمحت الحكومات العربية بمثل هذه الخطايا فى حق اللغة العربية.. حين تسير فى شوارع أى عاصمة عربية سوف تتعجب من أسماء المحلات والشركات والمولات والمطاعم وكلها باللغات الأجنبية وكأن أصحابها يخجلون من الأسماء العربية.. لا توجد مؤسسات عربية الآن تحمل أسماء عربية إلا قلة قليلة..
< نأتى بعد ذلك إلى وسائل الإعلام التى انتشرت فيها اللهجات المحلية حديثاً وغناءً وخطباً.. حتى إن المسئولين الكبار لا يكلفون موظفا فى مكاتبهم يصلح لهم ما يلقون من الأحاديث والخطب.. بل إن أئمة المساجد كثيرون منهم يخطئون فى أبسط قواعد اللغة العربية.. إن الملايين فى الدول الإسلامية لهم حق علينا لأن اللغة العربية لغة القرآن الكريم وأهم مرجعيات العقيدة الإسلامية التى يدين بها أكثر من مليار ونصف مليار مسلم..
< إننى أرجو من د. صلاح فضل رئيس مجمع اللغة العربية أن يتابع مع لجان مجلس النواب مشروع قانون اللغة العربية وأن يضع من الضمانات ما يحمى مستقبل هذه اللغة.. وأن يوفر لها كل مصادر الحماية ابتداء باهتمام الأسرة وانتهاء بأسماء المحلات.. وأن تفرض اللغة العربية على المدارس الأجنبية فى الدول العربية وان يقوم الإعلام العربى بدوره فى خدمة اللغة العربية.. وأن تشجع الحكومات استخدام اللغة العربية فى أحاديثها وفنونها لكى تبقى تاجا على رأس الثقافة العربية..
< إن إهمال اللغة العربية كان جزءا من مؤامرة اكبر ضد الثقافة العربية بل إن الهجوم على الإسلام من جبهات كثيرة كانت لغة القرآن الكريم إحدى أهدافه.. لقد كان الهجوم الضارى على الثقافة العربية وضرب ثوابتها الدينية هو الأساس للحملات التى حاولت تشويه الإسلام فى أهم ثوابته وهى لغة القرآن الكريم.. إن الفصل بين إهمال اللغة العربية والغزوات التى أدت إلى انتشار التعليم الأجنبى كانت مؤامرة واحدة
< فى السنوات الأخيرة انتشر التعليم الأجنبى واجتاح العالم العربى.. ووجدناه بكل اللغات حتى الصينية واليابانية مرورا على الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية.. وكانت اللغة العربية أهم ضحايا غزو التعليم الأجنبى للعالم العربى.. إن أجيالنا الجديدة لم تعد تعرف الكثير من لغتها فهى تغنى بالأجنبية وتشاهد السينما الأجنبية واللعب الأجنبية وتتحدث باللغات الأجنبية.. والأسرة العربية الآن لا تعترف باللغة العربية والخادمة أجنبية والسائق هندى والسوبر ماركت أجنبى..
< غابت اللغة العربية عن المدرسة والشارع والبيت وأحاديث أبناء الأسرة الواحدة.. كل هذه الظواهر كانت تهدف إلى ضرب ثوابت كثيرة فى المجتمعات العربية.. ولا أريد أن أقول إنها كانت مؤامرة ولكنها إهمال وصل إلى درجة التآمر.. إن ما تتعرض له اللغة العربية ليس شيئا عابرا ولكنه خطر يهدد أهم مقومات الأمة.. إننى أعلم أن مشروع قانون اللغة العربية منذ فترة طويلة داخل لجان مجلس النواب.. وقد تأخر فيها كثيرا وينبغى أن يضعه المجلس فى مقدمة أولوياته.. وإنى على ثقة أن د.صلاح فضل سيكون سباقا لإنجاز هذا القانون..
< فى يوم من الأيام كانت الكتاتيب هى التى تخرجت منها أجيال من قراء القرآن الكريم بل والكتاب والمبدعون بعد ذلك وهؤلاء هم الذين حافظوا على اللغة العربية.. وللأسف الشديد أن مدارسنا الآن لا تقوم بهذا الدور تعليما وحماية..
< أعود من حيث بدأت مطالبا الأزهر الشريف أن يعود لدوره القديم فى حماية لغة القرآن وألا يتركها حائرة بين المغامرين والكارهين.. وعلى النخبة أن تحمى لغتها ومصدر إبداعاتها.. وأنا لا أتصور أن يشجع البعض العامية بهذه الصورة المؤسفة.. ومن يشاهد مستوى الأغانى الجديدة وما يقدم على المسارح وشاشات الفضائيات ومستوى الحوار الهابط على وسائل التواصل الاجتماعى سوف يدرك حجم المأساة التى تعانى منها لغتنا الجميلة..
< إن أى مخاطر تواجهها اللغة العربية إساءة للغة القرآن الكريم وتشويه لأهم مقومات ثقافتنا العربية.. وقبل هذا كله عدوان صارخ على هويتنا التى نعتز ونفخر بها.. إن الهجوم الضارى الذى تتعرض له اللغة العربية تحت مسميات التجديد والحداثة وموجات التغريب التى شوهت الكثير من مصادر الإبداع مازالت تمثل تهديدا للإبداع العربى فى كل مجالاته.. لأن اللغة ليست مجرد أحاديث أو كلمات نرددها إنها ضمير المجتمعات وأهم حصون بقائها..
< إن الغريب الآن أن إسرائيل تسعى لنشر اللغة العبرية بين الشعوب العربية فى مظاهرة التطبيع بل إنها تقوم بتدريس اللغة العربية فى مدارسها ومن بينها أشعار محمود درويش وقصائد أم كلثوم..
< لقد شهدت اللغة العربية محاولات تشويه كثيرة ما بين الحروف اللاتينية كما فعلت تركيا أو استبدالها بلغات أخرى ولكنها بقيت صامدة أمام كل هذه المؤامرات.. إننا نريد العودة لأجيال وضعت هذه اللغة فى مكانة مقدسة لأنها لغة القرآن وأبدعت بها فنونا جميلة وإبداعات استحقت البقاء.. وفى تاريخ هذه اللغة إبداعات فريدة فى كل الفنون والآداب وكان الشعر العربى واحداً من أهم روافد الإبداع فى لغتنا الجميلة..
< إن هناك جانبا رسميا فى القضية يخص الحكومات العربية لأنها تملك سلطة القرار بما فيها من مؤسسات ثقافية وتعليمية.. وتستطيع إذا أرادت أن تعيد اللغة العربية إلى سابق مجدها كلاما وتعليما وحماية .. لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى تمثل خطرا حقيقيا على اللغة العربية.. لأن الأجيال الجديدة لا تستخدمها على النت والتليفون المحمول وما يستجد من التكنولوجيا الحديثة التى ينبغى أن يكون لنا مكان فيها.. وإن كانت قراءات القرآن الكريم مازالت من أهم مصادر اللغة العربية وان كانت لا تكفى..
< تبقى عندى نقطة أخيرة وهى انقسام النخبة العربية فى مواقفها تجاه اللغة العربية.. هناك من يلهث وراء الحداثة ويرى فيها التجديد والمعاصرة وهناك من يرى أن اللغة ضمير الأمة وثوابتها الثقافية.. فما بالك إذا كانت روح العقيدة وجوهر جذورها ممثلة فى إنها لغة القرآن الكريم.. ويعجب الإنسان من دعاة الاجتهاد والتجديد تحت مسميات كثيرة وهم لا يجيدون التعامل مع لغتهم فهما وإدراكا بل إن البعض أسرف فى الهجوم عليها من أجل ثقافات ولغات أخرى ومن أجل أهداف مشبوهة ترى فى العدوان على اللغة العربية طريقاً لضرب ثوابت الإسلام الدين واللغة والعقيدة..
ويبقى الشعر
وقلنـَا كثيرًا
وَطافتْ عَلى الصَّمْت كلُّ الحكايَا
سنونٌ تخفـَّتْ وَرَاءَ السَّنينَ
وَمَازالَ قلبىَ طفـَلا ً بريئـًا
يُحدِّقُ فيكِ..وَيَحْبُو إليْك
كأنـّى عَلى الأمْس ماتتْ خـُطايَا
تغيَّرتِ الأرْضُ فى كلِّ شىْءٍ
وَمَازلت أنـْت
نقوشـًا على العُمْر
وشْمًا على القلـْبِ
ضوءًا على العيْن
مَا زلتِ أنتِ بَكارة َعُمْرى..شـَذا منْ صبَايَا
رأينـَا الليَالى علـَى رَاحَتينـَا
رمادًا منَ الشـَّوْق طيْفـًا بَعيدا
يثورُ وَيَهْدَأ.. بَيْنَ الحنايَا
فعطرُكِ هذا الذى كانَ يَأتِى..وَيَسْرقُ نوْمى
وشعرُك هَذا الذى كان يَهْفو..ويسْفكُ دَمِّى
وَصَوتـُكِ هذا الذى كانَ يَخـْبُو..فأشـْقى بهمِّى
وقلنا كثيرًا ..
وأحْسَسْتُ أن الزَّمَانَ الذى ضَاعَ منـَّا
تـَجَمّع فِى العَيْن حَبَّاتِ دَمْعٍ..
وأصْبَحَ نهْرًا منَ الحزْن يجْرى
يسُدُّ الطريقْ..
وأنَّ الدُّمُوعَ التى فى المآقِى
غدتْ فى عُيُونكِ أطيافَ ضوْءٍ
وصارتْ بقلبى..بقايَا حَريقْ
أكادُ أعانقُ عَيْنيكِ شوْقـًا..وأنتِ أمَامى
وبيْنى وَبيَنك دَرْبٌ طويلٌ
وخلفَ المسَافاتِ..جرْحٌ عميقْ
وأحْسَسْتُ أنى لأول يَوْم ٍ رجعْتُ..
أردِّدُ بَعْض الحُروف
وَعَادَ لسَانىَ يَحْبُو قليلا .. وينطقُ شيئـًا
فمنذ ُ سنينَ..نسيتُ الكلامْ
وقلنـَا كثيرًا..
وأحْسَسْتُ أنك حينَ ذهَبْتِ
أخْذتِ من العُمْر كلَّ البريقْ
فلمْ يبقَ فى العُمْر غيْرُ الصَّدَأ
وأنَّ دَمِى تاهَ بَيْنَ العُروق..
وخاصَمَ نـَبْضِى..
ومَاذا سَيْفـْعَلُ نبضُ غريقْ ؟
وأحسسْتُ أنكِ يوْم ارتحَلتِ
أخذت مَفاتيح قلـْبى
فمَا عَادَ يهْفو لطيفٍ سواكِ
وما عاد يسمعٌ إلا ندَاك
وأنـَّك حينَ ارتـَحَلـْت
سَرَقـْت تعاويذ عُمْرى
فصَارَ مُبَاحًا..وَصَارَ مشاعًا
وأنىَ بـعدَك بعتُ الليَالى
وفى كلِّ يَوْم ٍ يدورُ المزادْ
أبيعُ الحنينَ..أبيعُ السنينَ
وأرجعُ وحْدى..وبعضى رمادْ
وأنى أصْبحتُ طفـْلا صغيرًا
تشرَّد عُمْرًا
وَصارَ لقيطـًا على كلِّ بَيْتٍ
وَصارَ مشاعًا على كلِّ صَدْر
وَصارَ خطيئة عُمْر جَبَانْ
وأحْسستُ أنـِّى تعلمْتُ بَعْدكِ
زيفَ الحديثِ..وزيْفَ المشَاعرْ
تساوَتْ على العيْن كلُّ الوُجُوه
وكلُّ العُيُون..وكلُّ الضفائرْ
تسَاوَى على العين لونُ الوفاءِ..
وزيفُ النقاءِ..
ودمُّ الضحايَا..ودمُّ السَّجائرْ
تساوتْ على القلبِ كل الحكايَا
وقلنا كثيرًا
وعدتُ أفتشُ فى مُقلتيْكِ
وألقِى رحَالى على شاطئيك
وأبحرتُ..أبحرْتُ فى مقلتيك
لعلى أرَى خلف هَذى الشواطِئ
وَجْهى القديمَ الذى ضاعَ منـِّى..
وفتشتُ عنـْهُ السنينَ الطوالْ
لقدْ ضاعَ منى منذ ارتحَلتِ
رأيتكِ وَجْهى الذى ضاعَ يومًا
بنفس الملامح..نفس البراءِة
نفـْس البكارةِ..نفس ِالسؤالْ
وقلنا كثيرًا..وعنـْدَ الصَّبَاح
رأيتـُكِ فى الضوْءِ ذرَّات شوق ٍ
أبتْ أنْ تضيعْ
لمحتكِ فى الصبح أيام طهر ٍ
تراجَعَ فيها نداء الخطايَا..
وزهرة ُعمر أبتْ أن تزفَّ لغيْر الرَّبيعْ
فمَازلتِ أنتِ الزمانَ الجميلْ
وكانَ الودَاعُ هو المستحيلْ
فيا شهْرَزادُ التى فارقـْـتنى
وألقتْ على الصُّبح بَعْض الرَّمادْ
ترى هل قنعْتِ بطيفِ الحكايَا ؟
ترَى هلْ سَئمتِ الحديثَ المعَادْ ؟
وقلنا كثيرًا..وعندَ الصَّبَاح
رجعتُ وَحيدا ألملمُ بعْضى
وأجمعُ وجْهًا تناثر منـِّى
وفوقَ المقاعِدِ تجْرى دمَايَا
وعدْتُ أسائلُ عنكِ المقاهىِ
وأسألُ رُواد هذا المكانْ
فيصْفَع وُجْهَى حُزْنٌ كَئِيبُ ..
وَلَمْ يَبْق فِى الصَّمتِ إِلَّاِنَدَايا
فَمَازَال عِطْرُكِ فِى كُلّ شَىْءٍ
ومَازَال وجْهُكِ خَلفَ الْجِدَارِ
وَبَيْنَ الْمَقَاعِدِ.. فَوْقَ الْمَرَايَا
تُرَى كَانَ حُلْمًا ؟
عَلَى كُلّ رُكْن تَئِنّ الْبَقَايَا
فَمَا كُنْتَ أَنْتِ سِوَى شَهْرَزَادْ
ومَا كَانَ عمرى.. غَيَر الحَكَاَيا
قصيدة «ما بعد الليلة الأخيرة» سنة 1990ـ