Close ad

حين غابت القدوة وانسحبت النخبة

8-1-2021 | 12:54
الأهرام اليومي نقلاً عن

منذ سنوات كتبت مقالا حول انسحاب المتن وظهور الهوامش وكانت وجهة نظرى أن العالم العربى يشهد تحولات خطيرة فى توازنات القوى والأدوار .. وأن هناك فرصة كبيرة أمام دول الهوامش لتكون فى صدارة المشهد .. وأن الدول الصغيرة يمكن أن تكون صاحبة الدور الأكبر فى مسيرة الأحداث .. وقلت يومها إن هناك دويلات عربية صغيرة يتم إعدادها لتلعب أدوارا أكبر..

< قلت هذا من سنوات وللأسف الشديد لم يكن ذلك نبوءة أو استنتاجا ولكنها كانت حقيقة دارت حولها الدراسات بل إنها وجدت من يؤيدها ويفتح لها الأبواب .. وظهر ما يسمى الثورة الخلاقة حيث كانت كل الأحداث تمهد لهذا الواقع الجديد وكانت أولى الخطوات هى محاولات ضرب جذور الأدوار الرئيسية للدول الكبرى وفى مقدمتها مصر..

< كان العالم كله يعلم أن الثقافة المصرية هى تاج مصر ودورها وريادتها وأن هذا الدور لا يمكن المساس به لأنه غير قابل للتوريث .. وأن هذا الدور يقوم على مجموعة من القدرات والثوابت التى منحت مصر هذا الدور الذى امتد عشرات السنين وجمع رصيدا من المواهب والرموز التى شكلت وجدان أمة بكل مظاهر التفوق والتميز والإبداع .. كانت مصر تملك كل أسباب الريادة كانت مصر سياسيا هى صاحبة الكلمة فى كل شيء إذا قالت سمعها العالم كل العالم وإذا قررت كان قرارها نداء للجميع وإذا غضبت كان للغضب صداه..

< كانت هذه هى مصر السياسة وخلف ذلك كتيبة من العقول المبهرة وكانت مصر جغرافياً هى الأرض والنيل والشواطئ والبشر وهذا الإنسان العبقرى أول من صاغ الحياة على شواطئ النهر وعرف الدولة والنظام والحق والعدل .. وقبل هذا كله عرف أن للكون إلها .. كانت مصر الحرب والسلام والفكر والثقافة والجيش المقاتل .. كان العالم يعرف ذلك ويقدر هذا الكيان الحضارى الكبير..

< لابد أن نعترف أن الكثير من هذه الثوابت قد تغير ولم يعد كما كان وللأسف الشديد فإن الثقافة تحملت الضربات الأولى التى أصابت عقل مصر وتعددت مظاهر الخلل والتراجع وكان الإبداع المصرى أول الضحايا .. فقد لقيت كتائب المبدعين فى كل المجالات إهمالا شديداً ووقع على الكثيرين منهم ظلم شديد، وغابت تيارات فكرية وإبداعية خلاقة فى هذا المناخ وانسحب البعض .. ومع رحيل نخبة من مبدعى مصر الكبار خسرت مصر دورا من أهم أدوارها وهو الريادة الثقافية ..

< فى سنوات قليلة غابت عن الحياة أعظم النخب المصرية فى الإبداع واختفت عشرات الأسماء فى كل مجالات الإبداع فكرا وفنا وثقافة وإبداعا .. كانت الساحة العربية قد شهدت تحولات خطيرة حين هبط البترول وتغيرت أحوال الشعوب وزاد حجم الثروات واختفى دور مصر الغنية التى اعتادت أن تقدم الدعم للأشقاء فى الصحة والتعليم وأسلوب الحياة وكانت الثقافة أهم ما قدمت مصر لأمتها العربية..

< كان الغناء والفن والإبداع والمسرح والسينما والسلوكيات الرفيعة والأخلاق كل هذا كان مصريا وكانت وسطية الإسلام وسماحته مصرية .. وكانت لغة القرآن قراءة وترتيلا وقراء مصرية .. كانت مصر تمثل النموذج فى كل شىء ثقافة وتحضرا ودورا ومسئولية.. لم يكن هناك خلاف على دور مصر وكانت الشعوب العربية على قناعة تامة بهذا الدور بل إنها كانت تقدر مكانة مصر وتحسب لها ألف حساب .. لابد أن نعترف بأن مصر هى التى فرطت فى دورها وريادتها وكان لذلك شواهد كثيرة..

< لم تعد الثقافة المصرية على نفس الدرجة من العطاء والتألق من حيث مستوى الإبداع .. ولنا أن نتصور مستوى الفن المصرى فى الغناء وتلك الظواهر التى أخذت مكانة أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم والسنباطى ورامى وهذه الكوكبة التى منحت الغناء المصرى الهيبة والمكانة وظهرت نماذج فى الفن الهابط أساءت للثقافة المصرية كلها .. وهنا أيضا ساءت أحوال السينما وظهرت سينما المقاولات ثم أفلام العنف والمخدرات وفى المسرح ظهرت نفس أمراض السطحية والإسفاف..

< فقدت الثقافة المصرية دورها الرائد فى الفكر والنقد والاجتهاد وكان أكبر دليل على ذلك هذا الصراع الذى مازال يدور بين النخبة المصرية حول قضايا تجديد الخطاب الدينى .. وكان غريبا أن يحدث ذلك فى بلد الأزهر الشريف بما فيه من العلماء. على جانب آخر فرطت مصر فى دورها فى حماية اللغة العربية لغة القرآن وهى التى حافظت على هذا الدور مئات السنين .. أمام ذلك كله تدفقت على مصر أموال كثيرة غيرت كل الثوابت التى قامت عليها الثقافة المصرية فنا وإبداعا ولغة وعقيدة وفكرا وأذواقا.. وكان هذا التحول اخطر ما أصاب الإبداع المصرى فى كل المجالات..

< اخترقت سطوة المال وجبروته كل مقومات الفن الحقيقى واختلط الغناء وتسربت لغة غريبة وسادت لغة العنف وظهرت أشباح أفسدت أجيالا كاملة بالفن الهابط .. ولم يعد الفن أسلوب بناء ولكنه تحول إلى أدوات هدم ودمار.. أمام تراجع الثقافة المصرية الدور والمستوى والرسالة .. اختفت مراكز ثقافية عربية كان لها دور كبير فى خدمة الثقافة العربية .. اختفت بغداد بكل ما قدمته من الإبداع شعرا ولغة وعطاء .. واختفت دمشق وإبداعها الأصيل وغابت لبنان بكتبها وأغانيها وفنها الأصيل .. وأمام ذلك كله كان ولابد أن تظهر البدائل التى تسعى لكى تملأ الفراغ..

< وأمام إمكانات مالية ضخمة تغيرت الأدوار وتبدلت المواقع وبدأت رحلة لتوريث الأدوار وهنا كان ظهور الهوامش التى تحاول أن تسرق الأدوار .. لاشك أن المال كان أكثر سطوة وتأثيراً خاصة انه اقتحم كل مجالات الإبداع وغير الكثير من ثوابتها وأذواقها بل انه نجح فى ترويج أنواع من الفن الهابط غناء وفنا وأذواقا .. استطاعت الهوامش أن تحل مكان المتن بمعنى أكثر وضوحا ظهرت كيانات صغيرة واستطاعت بالمال أن تشترى أدوارا أكبر كثيرا من قدراتها وهنا سقطت الثقافة العربية ضحية منافسات بين أصحاب الأموال من منهم أشد تأثيرا وقوة..

< إن السؤال الذى يطرح نفسه الآن ما هو الحل كيف نعيد للثقافة المصرية دورها وبريقها القديم .. كيف يكون التنسيق والتعاون بين ما بقى من مراكز الإشعاع الثقافى فى مصر وكيف يشارك المال العربى فى إنتاج ثقافة أكثر إبداعا؟.. إن مصر تستطيع أن تستعيد دورها وتتصدر المشهد بأن تعود الثقافة مرة أخرى فى الأولويات مالاً وتخطيطاً وانجازاً وأن نقدم للعالم أفضل ما عندنا رموزا وفنا وفكرا وأخلاقا ورشداً..

< كانت الثقافة المصرية هى اغلى وأرقى ما قدم العقل المصرى فنا وإبداعا وحين تسلل الفن الهابط قدمنا نماذج رديئة لا تليق بنا .. ولنا أن نتصور الفن الساذج الرخيص الذى اقتحم العواصم العربية وهو يحمل اسم مصر وهذه الوجوه الغريبة التى أساءت لمصر فى الفن والسلوك والأخلاق .. إن الشيء المؤكد أن الأدوار لا تورث خاصة الأدوار الكبرى التى تشارك فى بناء العقول والشعوب والأمم وكان هذا دور مصر فى كل العصور .. إن من حق الدول مهما يكن حجمها أن تسعى للحصول على أدوار حتى لو كانت اكبر من قدراتها ولكن ينبغى ألا يكون ذلك على حساب ادوار صنعت التاريخ وشكلت الأوطان والبشر..

< إن محاولات تهميش الدور المصرى فى كل المجالات ثقافيا وسياسيا لا يمكن أن تنجح أمام كيانات هشة وادوار مشبوهة ومؤامرات لا تخفى أهدافها .. لأن مصر قادرة دائما أن تسترد مظاهر تفوقها وقدراتها .. ولأن الدور المصرى غير قابل للبيع والشراء والتوريث..


ويبقى الشعر

لوْ أنـَّنـَا .. لمْ نـَفـْتـَرقْ

لبَقيتُ نجمًا فى سَمائك ساريًا

وتـَركتُ عُمريَ فى لهيبكِ يَحْترقْ

لـَوْ أنـَّنِى سَافرتُ فى قِمَم ِ السَّحابِ

وعُدتُ نـَهرًا فى ربُوعِكِ يَنطلِقْ

لكنـَّها الأحلامُ تـَنثــُرنـَا سرابًا فى المدَي

وتـَظلُّ سرًا .. فى الجوَانح ِ يَخـْتنِقْ

لوْ أنـَّنـَا .. لمْ نـَفـْتـَرقْ

كـَانـَتْ خُطانـَا فِى ذهول ٍ تـَبتعِدْ

وتـَشـُدُّنا أشْواقـُنا

فنعُودُ نـُمسِكُ بالطـَّريق المرتـَعِدْ

تـُلقِى بنـَا اللـَّحظاتُ

فى صَخبِ الزّحام كأنـَّنـا

جَسدٌ تناثـَرَ فى جَسدْ

جَسدَان فى جَسدٍ نسيرُ .. وَحوْلنـَا

كانتْ وجوهْ النـَّاس تجَرى كالرّياح ِ

فلا نـَرَى مِنـْهُمْ أحد

مَازلتُ أذكرُ عندَما جَاء الرَّحيلُ ..

وَصاحَ فى عَيْنى الأرقْ

وتـَعثــَّرتْ أنفاسُنـَا بينَ الضُّـلوع

وعَادَ يشْطـرُنا القـَلقْ

ورَأيتُ عُمريَ فى يَدَيْكِ

رياحَ صَيفٍ عابثٍ

ورَمادَ أحْلام ٍ.. وَشيئـًا مِنْ ورَقْ

هَذا أنا

عُمرى وَرقْ

حُلمِى ورَقْ

طفلٌ صَغيرٌ فى جَحيم الموج

حَاصرَه الغـَرقْ

ضَوءٌ طريدٌ فى عُيون الأفـْق

يَطويه الشـَّفقْ

نجمٌ أضَاءَ الكونَ يَومًا .. واحْتـَرقْ

لا تـَسْألى العَينَ الحزينة َ

كـَيفَ أدْمتـْها المُقـَلْ ..

لا تـَسْألِى النـَّجمَ البعيدَ

بأيّ سرّ قد أفـَلْ

مَهمَا تـَوارَى الحُلمُ فِى عَينِي

وَأرّقنِى الأجَلْ

مَازلتُ المحُ فى رَمادِ العُمْر

شَيئـًا من أمَلْ

فـَغدًا ستنـْبـتُ فى جَبين ِالأفـْق

نَجماتٌ جَديدةْ

وَغدًا ستـُورقُ فى لـَيالِى الحزْن

أيَّامٌ سَعِيدة ْ

وغدًا أراكِ عَلى المدَي

شَمْسًا تـُضِيءُ ظلامَ أيَّامي

وإنْ كـَانَتْ بَعِيدةْ

لوْ أنـَّنـَا لـَمْ نـَفترقْ

حَملتـْكِ فى ضَجر الشـَّوارع فـَرْحتِى ..

والخوفُ يُلقينِى عَلى الطـُّرقاتِ

تتمَايلُ الأحلامُ بينَ عُيوننـَا

وتـَغيبُ فى صَمتِ اللــُّـقا نبضَاتِي

واللـَّيلُ سكـّيرٌ يُعانِقُ كأسَه

وَيَطوفُ مُنـْتـَشِيًا عَلى الحانـَاتِ

والضَّوءُ يَسْكبُ فى العُيُون بَريقـَه

وَيهيمُ فى خَجل ٍ عَلى الشُّرفـَاتِ ..

كـُنـَّا نـُصَلـّى فى الطـَّريق ِ وحَوْلـَنا

يَتنَدَّرُ الكـُهَّانُ بالضَّحكـَاتِ

كـُنـَّا نـُعانِقُ فى الظـَّلام دُموعَنا

والدَّربُ مُنفطـٌر مِنَ العَبراتِ

وتوقـَّفَ الزَّمنُ المسافِرُ فى دَمِي

وتـَعثـَّرتْ فى لـَوعةٍ خُطوَاتي

والوَقتُ يَرتـَعُ والدَّقائِقُ تـَخْتـَفي

فنـُطـَاردُ اللـَّحظـَاتِ .. باللـَّحظـَاتِ ..

مَا كـُنتُ أعْرفُ والرَّحيلُ يشدُّنا

أنـّى أوَدّعُ مُهْجتِى وحيَاتِى ..

مَا كانَ خَوْفِى منْ وَدَاع ٍ قدْ مَضَي

بَلْ كانَ خوْفِى منْ فِراق ٍ آتي

لم يبقَ شَيءٌ منذ ُكانَ ودَاعُنا

غَير الجراح ِ تئنُّ فى كلِمَاتي

لوْ أنـَّنـَا لـَمْ نـَفترقْ

لبَقِيتِ فى زمن ِ الخَطِيئـَةِ تـَوْبَتِي

وجَعَلتُ وجْهَكِ قبْلـَتِى .. وصَلاتِي
قصيدة « لو اننا لم نفترق» سنة 1998

كلمات البحث
الأكثر قراءة