كانت الانتخابات الأمريكية هذا العام شيئا مختلفا عن كل ما سبق، لأنها لم تكن مقصورة فى تأثيرها على ما يجرى فى صناديق الاقتراع أو عدد الأصوات أو النتائج فى الولايات المتحدة ولكنها كانت حديث العالم كله .. لقد وقفت شعوب العالم ترصد ما يحدث فى أمريكا وتتابع ما يجرى وكان وراء ذلك أكثر من سبب..
< إن العالم يدرك حجم الدور الأمريكى فى السياسة العالمية، لأن النفوذ الأمريكى لم يترك شعبا ولا وطنا إلا وكان له دور ومكان فيه .. إن السياسة الأمريكية قد أخطأت فى حسابات كثيرة فى السنوات الأخيرة أمام حالة من التخبط والارتجالية فى مواقف الرئيس ترامب .. وقبل هذا كله فإن أمريكا النموذج والحلم بقيت أمام شعوب كثيرة وطن الديمقراطية وحقوق الإنسان رغم كل ما تعرضت له هذه القيم من تجاوزات .. لا أحد ينكر أن النموذج الأمريكى مازال يراود شعوبا كثيرة تعانى الاستبداد وتحلم بحياة أكثر حرية وعدالة وكرامة .. رغم كل أخطاء التجربة الأمريكية فما زالت قضية الحريات هى الجانب المضيء والمبهر فى تاريخ وثوابت الشعب الأمريكى ..
< أعود إلى الانتخابات الأمريكية بين الرئيس ترامب وجون بايدن وما وصلت إليه من انقسامات وفضائح أساءت لأهم الثوابت فى التجربة الأمريكية .. إن الشىء المؤكد أن الرئيس ترامب لم يكن منذ البداية الشخص المناسب للبيت الأبيض وأنه يعانى قصورا حادا فى قدراته السياسية والفكرية وهنا كانت الكارثة الكبرى .. فمازال الرئيس ترامب يرفض أن يترك منصبه ويغادر البيت الأبيض تاركا السلطة لرئيس جديد فائز فى الانتخابات، ومازال لا يعترف بنتائج هذه الانتخابات رغم أنه خسر جميع القضايا التى تناولت قضايا التزوير.. إن ما يحدث فى أمريكا الآن أمام رئيس يرفض أن يترك منصبه قد أساء للتجربة الأمريكية كلها..
< لقد اتضح أنه لا يعرف شيئا عن الدستور الأمريكى ولم يقرأ مادة فيه ولم يراع أحكام القضاء التى لم ينصفه حكم واحد منها .. وقبل هذا لقد أفسد الرئيس ترامب على الشعب الأمريكى فرحته وشوه صورة أمريكا أمام العالم كله.. إن أخطر ما حدث فى الانتخابات الأمريكية هذا العام أن الشعب الأمريكى انقسم على نفسه.. وأصبحت أمريكا أكثر من شعب وأكثر من رئيس، لأن هناك الملايين الذين شاركوا فى الانتخابات لديهم شك قد يصل إلى درجة اليقين أن الانتخابات مزورة .. وسوف يترك ذلك أثرا بعيدا فى مدى الثقة والنزاهة فى أى انتخابات قادمة إذا كانت هذه هى الآثار الداخلية لما حدث فى أمريكا فإن الآثار الخارجية ستكون أعمق وأسوأ..
< إن شعوب العالم التى كثيرا ما انبهرت بالديمقراطية الغربية ممثلة فى أهم نماذجها سوف تعيد حساباتها وهى ترى كل الأشياء تتهاوى أمام رئيس لا يحترم الدستور والقوانين وإرادة شعبه.. إن أكبر خطايا الرئيس ترامب انه شوه صورة النموذج الأمريكى أمام شعوب العالم التى مازالت ترى فى الديمقراطية الحلم والملجأ والملاذ .. مازالت هناك شعوب تحلم بأحزاب حقيقية وانتخابات حرة وحياة أكثر رخاء وكرامة.. لقد دمر الرئيس ترامب صورة الحريات التى قدمت عشرات الأجيال عمرها لكى تراها حقيقة.. هناك الملايين من البشر الذين عانوا القهر والاستبداد من أجل شيء يسمى كرامة الإنسان..
< إن الشعب الأمريكى سوف يعانى كثيرا بعد هذه التجربة وقد يحتاج زمانا لكى يستعيد ثقته فى حرية حقيقية وانتخابات صحيحة ورئيس لا يقع فريسة للشطط وسوء التقدير.. إن الأزمة الحقيقية التى يواجهها العالم الآن ليست من فاز فى الانتخابات الأمريكية ومن خسر ولكن قضية الديمقراطية الغربية هى التى تتعرض لخسارة كبيرة فى أقدم وأهم قلاعها .. هناك أجيال كثيرة عاشت الحلم الأمريكى ولا شك أن سقوط هذا الحلم سوف تكون له توابع كثيرة ..
< إنه مع الفارق يشبه سقوط نظريات الاشتراكية مع انهيار الاتحاد السوفييتى .. منذ سنوات كانت الحرب الباردة بين الرأسمالية الغربية التى حملت لواء الديمقراطية والاشتراكية الماركسية التى بشر بها الاتحاد السوفييتى وهذا الصراع الفكرى الرهيب الذى قسم شعوب العالم .. منذ سنوات انتهت الاشتراكية على يد جورباتشوف ودخل التاريخ بنهاية ما كان يسمى الاتحاد السوفييتى، فهل ستكون نهاية الديمقراطية الغربية على يد ترامب؟ .. وهل يدخل جورباتشوف وترامب إلى مقصلة التاريخ من باب واحد؟! رغم المسافة الكبيرة التى تفصل الأحداث.. إلا أن الحقيقة المؤكدة إنه ما أشبه الليلة بالبارحة..
< سوف يقال الكثير عن أخطاء سنوات حكم الرئيس ترامب فى السياسة الأمريكية.. إلا أن أكبر خطاياه أنه وجه ضربة قاتلة لما كان يسمى الديمقراطية الغربية .. لقد شوه الرجل كل ما قيل عن الدساتير والقوانين والانتخابات والأحزاب وحقوق الإنسان والحريات وعاد بأمريكا إلى عصر الهنود الحمر .. وعلى العالم الآن أن يعيد حساباته وينسى ذلك الوهم الكبير الذى كان يسمى الديمقراطية، وكما أقيم فى أمريكا يوما تمثال الحرية يقام تمثال للرئيس ترامب يكتب عليه هنا كان يوما حلم الديمقراطية..
< إن الشعب الأمريكى يقف الآن فى حالة ذهول، فقد انتخب واختار وهناك رئيس منتخب يستعد لإدارة شئون الدولة، بينما يجلس رئيس سابق خسر الانتخابات يرفض أن يسلم السلطة .. إن هذا يمثل أسوأ أنواع الاستبداد فى دولة تحمل لواء الحريات أمام العالم كله .. إن أخطر ما فى هذه الصورة أنها تقدم نموذجا عصريا من نماذج الاستبداد فى أكثر دول العالم تقدما . لا أحد يعرف ما هى نتائج هذا الصراع على السلطة وكأننا أمام دولة من دول العالم السابع ..
< إن هناك افتراضات كثيرة أن يقتحم الجيش الأمريكى البيت الأبيض ويخرج الرئيس ترامب بالقوة مقبوضا عليه .. أو أن يتدخل ما بقى من حكماء الشعب الأمريكى لإقناع الرئيس ترامب بتسليم السلطة للرئيس الفائز فى الانتخابات .. أو أن يحدث صدام بين القوى المنقسمة على نفسها وتكون الحرب الأهلية .. وفى كل الحالات لن يكون هناك مهزوم أو منتصر، لأن الخسائر كلها ستكون من نصيب الشعب الأمريكى ومعه الملايين من شعوب العالم الذين حلموا بالديمقراطية ..
< فى تاريخ الإنسانية لحظات يتوقف عندها التاريخ قد تكون مضيئة أو مظلمة.. والشيء المؤكد أن التاريخ سوف يضحك كثيرا أمام الرئيس ترامب وهو يمسك بالكرسى ويرفض أن يغادر البيت الأبيض ويصيح: على جثتى! .. سوف يحزن الملايين من شعوب العالم وهم يودعون هذا الحلم الجميل الذى كان يسمى الديمقراطية .. سوف يترك الرئيس ترامب خلفه ملفات كثيرة مفتوحة داخل أمريكا وخارجها ..
< لقد ترك للشعب الأمريكى حالة انقسام لا أحد يدرى لها نهاية وترك حالة من الشك فى ثوابت لها جذورها فى التجربة الأمريكية حول نزاهة الانتخابات وشفافية الأحزاب .. بل إن الحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه ربما يعانى انقسامات داخله بسبب مواقف ترامب .. أما عن خطايا الرئيس ترامب فى حق الشعوب العربية فهى كثيرة وتكفى الهدايا التى قدمها لإسرائيل ابتداء بالقدس وانتهاء بخطته للسلام .. ولا أحد يعلم ماذا سيقول التاريخ عن رجل أفسد على الشعب الأمريكى أغلى إنجازاته وهى الديمقراطية..
< يبقى بعد ذلك سؤال حائر: هل يمكن أن يبقى الرئيس ترامب فى البيت الأبيض فترة ثانية؟ نحن نعيش فى زمن العجائب زمن الرئيس ترامب .. ماذا سيبقى للرئيس ترامب فى ذاكرة الشعوب العربية وماذا سيبقى منه فى صفحات التاريخ.. سوف يقال إنه أكثر من أضر بالشعب الفلسطينى وقدم لإسرائيل ما لم يقدمه رئيس أمريكى سابق .. وإنه أكثر حاكم أساء للحريات ليس فى أمريكا وحدها ولكن فى العالم كله .. وقبل هذا هو الرئيس الذى خرج من البيت الأبيض على يد قوات الشرطة متهما بمحاولة السطو على البيت الأبيض..
< إن عشاق الحرية فى كل مكان يشعرون الآن بحزن شديد أمام تجربة من تجارب الصراع على السلطة ولعل أخطر ما فيها أنها لا تجرى فى دولة من دول العالم الثالث، ولكنها توشك أن تحمل أكثر شعوب الأرض تقدماً إلى مواجهة أبعد ما تكون عن الحريات والديمقراطية.. لقد عاد الرئيس ترامب بالشعب الأمريكى عشرات السنين إلى الوراء ووضع أمام العالم سؤالاً عن مستقبل الديمقراطية وهل ستبقى حلماً للمحرومين منها أم أنها وهم أضاء يوماً فى خيال شعوب العالم ومضى؟!..
ويبقى الشعر
سَيَأْتِى إِلَيْكِ زَمَانٌ جَدِيدٌ
وَفِيٌّ مَوْكِبَ الشَّوْقِ يَمْضِى زَمّانِي
وَقَدْ يَحْمَلُ الرَّوْضَ زَهْرًا ندياً
وَيَرْجِعُ لِلقَلْبِ عَطِر أَلامَانِي
وَقَدْ يَسْكُبُ اللَّيْلَ لَحْنًا شجياً
فَيَأْتِيكِ صَوْتِى حَزِينُ الأَغَانِي
وَقَدْ يَحْمِلُ العُمْرُ حُلْمًا وَلِيداً
لِحُبِّ جَدِيدٍ سَيَأْتِى مَكَانِي
وَلَكِنَّ قَلبَكِ مَهْمَا اِفْتَرَقْنَا
سَيَشْتَاقُ صَوْتِى.. وذكْرَى حَنَانِي
<<<
سيَأْتِى إِلَيْكِ زَمَانٌ جَدِيدٌ
وَيُصْبِحُ وَجهِى خَيَالًا عَبَرْ
وَنقْرَأُ فِى الَّليْلِ شعْرًا جَمِيلاً
يَذُوبُ حَنِينًا كَضَوْءِ القَمَرْ
وَفىَ لَحْظَةٍ نَسْتَعِيدُ الزَّمَانَ
وَنَذَكِرُ عُمْرًا مَضَى وَانْدَثَرْ
فَيُرْجِعُ لِلقَلْبِ دِفْءُ الحَيَاةِ
وَيَنْسَابُ كَالضَّوْءِ صَوْتُ المَطَرْ
وَلَنْ نَسْتَعِيدَ حكايا العِتَابِ
وَلَا مِنْ أَحَبَّ..وَلَا مِنْ غَدَرْ
<<<
إذَا مَا أَطَلَّتْ عُيُونُ القَصِيدَةْ
وَطَافَتْ مَعَ الشَّوْقِ حَيْرِى شريدَة
سَيَأْتِيكِ صَوْتِى يَشُقُّ السُّكُونَ
وَفِيّ كُلُّ ذكَرِيُّ جِرَاحُ جَدِيدَة
وَفِيّ كُلّ لَحْنٍ سَتجْرِى دُمُوعٌ
وَتَعْصِفُ بِى كِبْرِيَاءَ عَنِيدَهَ
وَتَعْبُرُ فِى الأُفْقِ أَسْرَابَ عُمْرِي
طُيُورًا مِنْ الحُلْمِ صَارَتْ عِنيدَهْ
وَإِنْ فَرَّقَتْنَا دُرُوبُ أَلْامَانِي
فَقَدْ نَلْتَقِى صُدْفَةً فِى قَصِيدَهْ
<<<
ستَعْبرُ يَوْمًا عَلَى وَجْنَتَيْكِ
نَسَائِمُ كَالفَجْرِ سَكْرَى بَرِيئَهْ
فَتَبْدُو لِعَيْنَيْكِ ذِكْرَى هَوَانَا
شُمُوعًا عَلَى الدّرب كَانَتْ مُضِيئَهْ
وَيَبْقَى عَلَى البُعْدِ طَيْفٌ جَمِيلٌ
تَوَدِّينَ فِى كُلِّ يَوْمِ مَجِيئِهْ
إِذَا كَانَ بُعْدَكِ عَنَى اخْتِيَارًا
فَإِنَّ لقانا وَرَبِيِّ مَشِيئهْ
لَقَدْ كُنْتِ فِى القِرَبِ أَغْلَى ذُنُوبِي
وَكُنْتِ عَلَى البُعْدِ أَحْلَى خَطِيئَهْ
<<<
وَإِنْ لَاحَ فِى الأُفْقِ طَيْفُ الخَرِيفِ
وَحَامَتْ عَلَيْنَا هُمُومُ الصَّقِيعْ
وَلَاحَتْ أَمَامَكِ أَيَّامُ عُمْرِي
وَحَلَّقَ كالغَيْمُ وَجْهَ الرَّبِيعْ
وَفِيِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِى الشِّتَاءِ
سَيَغْفُو بِصُدَرِكِ حُلْمٌ وَدِيعْ
تَعَوُّد مَعَ الدِّفْءِ ذِكْرَيْ اللَّيَالِي
وَتَنْسَابُ فِينَا بِحَارُ الدُّمُوعْ
وَيَصْرُخُ فِى القَلْبِ شِىء يُنَادِي:
أَمَّا مِنْ طَرِيقٍ لَنَا.. لِلرُّجُوعْ؟
<<<
وَإِنْ لَاحَ وَجْهُكِ فَوْقَ الْمَرَايَا
وَعَادَ لَنَا الأَمْسُ يَرْوَى الحَكَايَا
وَأَصْبَحَ عِطْرُكِ قَيْدًا ثَقِيلاً
يُمَزِّقُ قَلْبِى.. وَيُدْمى خُطَايَا
وُجُوهٍ مِنْ النَّاسِ مَرْت عَلَيْنَا
وَفىِ آخِرِ الدَّرْب صَارُوا بَقَايَا
وَلَكِنَّ وَجْهَكِ رَغْمَ الرَّحِيلِ
إِذَا غَابٌ طَيْفًا.. بَدَا فِى دِمَايَا
فَإِنْ صَارَ عُمْرُكِ بَعدِى مَرَايَا
فَلَنْ تَلْمَحِى فِيهِ شِىء سِوَايَا
<<<
وَإِنْ زَارَنَا الشَّوْقُ يَوْمًا..وَنَادَى
وَغَنِىَّ لَنَا مَا مَضَى..وَاِسْتَعَادَا
وَعَادَ إِلَى القَلْبِ عَهْدُ الجُنُونِ
فَزَادَ اِحْتِرَاقًا .. وَزِدْنَا بعَادَا
لَقَدْ عَاشَ قَلْبَيْ مِثْلَ النَّسِيمِ
إِذَا ذَاقَ عَطْرًا جَمِيلًا تَهَادَى
وَكَمْ كَانَ يَصْرُخُ مِثْلَ الحَرِيقِ
إِذَا مَا رَأَى النَّارَ سَكْرَى تَمَادَى!
فَهَلَّ أَخْطَأُ القَلْبُ حِينَ اِلْتَقَيْنَا
وفّى نَشْوَةَ العِشْقِ صِرْنَا رَمَادًا
<<<
كُئوسٌ تَوَالَتْ عَلَيْنَا فَذُقْنَا
بِهَا الحُزْنَ حِينًا.. وَحِينًا سُهَادَا
طُيُورٌ تُحَلِّقُ فِى كُلِّ أَرْضٍ
وَتَخْتَارُ فِى كُلِّ يَوْمٍ.. بِلادَا
تَوَالَتْ عَلَى الرَّوْضِ أَسْرَابُ طَيْرٍ
وَكَم طَارَ قَلْبِى إِلَيْهَا وَعَادَا!
فَرَغْمَ اِتِّسَاعِ الفَضَاءِ البَعِيدِ
فَكُمّ حنَّ قَلْبِى.. وَغَنِىَّ.. وَنَادَى!
وَكَمْ لمَتَه حِينَ ذَابَ اِشْتِيَاقًا
وَمَا زَادَه اللَّوْمُ إِلَّا عَنَادَا!
* نقلًا عن صحيفة الأهرام