من أصعب الأشياء فى حياة الإنسان أن يقف حائراً أمام تساؤلات عاجزة تقابلها إجابات حائرة فما بالك إذا عز السؤال واستحالت الإجابة.. شهور قليلة عبرت والإنسان مضطراً أن يجلس فى بيته لاشىء يؤنسه غير سحابات الوحدة وهو يقاوم عدواً غامضاً لا أحد يعرف عنه شيئا..
وما أصعب أن يجد الإنسان نفسه يودع الحياة فى صمت دون أن يسأل عنه أحد أو يصافحه عزيز أو قريب حتى لحظات الوداع محرمة عليه.. بعض الناس أصر أن يختفى عن عيون أهله وجيرانه ومحبيه وجلس وحيداً يقاوم المرض حتى رحل إلى خالقه دون أن يعرف أحد..
< نحن أمام مرحلة من الزمن تغيرت كل الأشياء فيها فقد ابتعدت المسافات والأجساد والأماكن وكل إنسان جلس مع نفسه يراجع أيامه ويستعيد ذكرياته وربما تولدت لديه رغبة متأخرة فى أن يصنع شيئا ولم يسعفه الجسد فتهاوى أمام كائن ضعيف ضئيل لم نعرف حقيقته حتى الآن، وهل صنع بأيدينا أم كان سراً من أسرار هذه الحياة وقد جاء وربما يمضى ونحن لا نعرف عنه شيئا؟!
< فى هذه العزلة الاضطرارية تدفقت الأسئلة وبقيت الإجابات بعيدة.. وما أصعب أن تقف خلف سنوات العمر وأنت عاجز عن أن تجيب سؤالا يطاردك.. ربما كان السؤال الأخطر هذا الشبح الذى ألقى بنا جميعا فى بيوتنا دون أن نعرف أى شيء عنه.. هل هو حقيقة أم وهم أم كارثة كونية أحاطت بالبشر؟!
< كان السؤال الأخطر أين ما أنجزته البشرية من كل مظاهر التقدم وكيف عجزت دول كبرى أن تكتشف حقيقة هذا الوباء، ومنها دول فشلت تماماً فى أن تحاصر الكارثة.. بماذا نسمى ما حدث فى أمريكا أسطورة العصر ونموذج التقدم فى البشرية كيف ارتبكت كل مؤسسات هذه القارة ووقفت عاجزة أمام هذا الشبح؟! وما هى مقاييس التقدم؟ هل فى العلوم أم التكنولوجيا أم السلوك والأخلاق؟ ولماذا سقطت أمريكا فى الامتحان هل هناك علم عاجز وتكنولوجيا مفسدة؟! وكيف خسرت أمريكا كل شيء حين فرطت فى قضايا الإنسان: السلوك والأخلاق والمبادئ؟!
< لقد خسرت أمريكا أمام الوباء خسارة كبيرة فى الأرواح والأموال والممتلكات، ولكن الخسارة الأكبر أن النموذج سقط، وأن القدوة انهارت وأن أمريكا المعجزة لم تعد كما كانت ولن تعود..
من كان يصدق أن الشارع الأمريكى وهو غارق فى الوباء سوف ينتفض فى ثورة عارمة أمام مقتل مواطن أسود بسيط اعتدى عليه بوحشية واحد من رجال الأمن، لم تكن محنة الوباء هى التى أخرجت الملايين من البيض والسود إلى الشوارع؛ ولكنها روح هذا المواطن الفقير الذى اختنقت أنفاسه فوق أحد الأرصفة.. لم يكن رد فعل سلطة القرار فى أمريكا ممثلا فى الرئيس ترامب على مستوى الحدث والمسئولية لم يناقش القضية من جذورها مع ملايين السود الذين غابت عنهم كل صور العدالة.. لم يسمع هتافات بسطاء الناس وهم يطالبون بالمساواة؛ ولكنه لجأ إلى القوة وأسقط كل ما خرج من أمريكا من شعارات الحريات والمساواة وحقوق الإنسان.. لقد طلب من جيشه أن يطارد الناس فى الشوارع، ونسى كل ما قيل عن الديمقراطية فى سجلات التاريخ الأمريكى، لم يجلس مع زعماء السود، ولم يسمع للصوت الآخر، ولكنه اختار أحد المخابئ العتيقة فى البيت الأبيض وتوارى فيه.. كان رد الشارع الأمريكى سريعًا حين اندفعت الجماهير وحطمت تمثال جورج واشنطن أكبر زعامات التاريخ فى حياة الأمريكيين.. ما بين بشاعة ووحشية مقتل جورج فلويد على يد رجال الشرطة وهروب زعيم ورئيس أكبر دولة فى العالم ونزول الجيش إلى الشارع ثم سقوط تمثال جورج واشنطن تحت أقدام المتظاهرين، كانت النهاية سؤال تجاوز كل الحدود والمسافات: وأين الديمقراطية الأمريكية والمساواة وحقوق الإنسان؟!..
< هناك أجيال كثيرة فى العالم سقطت فى غرام النموذج الأمريكى فى الحياة والحرية والمساواة وكانت الديمقراطية بكل مدارسها وأفكارها تستند دائما إلى التجربة الأمريكية حتى إن أمريكا فى فترة من الفترات كانت تسمى أرض الأحلام؛ لأن شباب العالم من كل البلاد كانوا ضحية النموذج الأمريكى المبهر فى كل شيء فكراً وطعاماً وسلوكاً..
لقد عشنا سنوات طويلة نجرى وراء هذا الوهم ومع الأيام اتضح أن القصة كلها كتبها خيال مريض فلا أمريكا بلد الديمقراطية ولا حقوق فيها للإنسان وكل ما فى الأمر أننا صدقنا هذه الأكاذيب من خلال الإعلام والسينما والمسلسلات وأنظمة القمع التى فرضتها أمريكا على شعوب ضاعت ثرواتها وأحلام شعوبها ثم ظهرت فى النهاية أمريكا من الداخل أمام وباء هزيل ووحشية فى قتل البشر وشعارات فى الديمقراطية كانت أكبر أكاذيب العصر..
< هناك الملايين فى العالم الآن الذين صدمتهم الأحداث الأخيرة ابتداء بالفشل فى مواجهة وباء ضعيف أمام عالم وصل إلى قمة التطور والإعجاز وانتهاء بأحاديث عن الحريات والديمقراطية ولجان حقوق الإنسان؛ بينما يموت مواطن أسود فى أكبر دولة فى العالم تحت حذاء شرطى متوحش.. أين كل ما كان يقال عن الأفكار العظيمة وجماعات حقوق الإنسان وتمويل المعارضة وشراء أصحاب الفكر، أين كل هذه الأشياء؟!
< إن السؤال الأخطر: كيف تهاوت كل الأفكار الإنسانية التى كان هدفها رقى الإنسان ورعايته وحقه فى الحياة الكريمة.. فى شبابنا كنا ننقسم على أنفسنا، كانت الأصوات الأعلى هى اليسار الشيوعى.. وكانت جماعات الليبراليين من دعاة الديمقراطية.. وكان الإخوان المسلمون يسكنون المخابئ.. كانت مؤسسات الدولة تشجع اليسار وسيطرت بعض رموزه على مواقع مهمة.. وكان الحديث عن الديمقراطية أفكا من عمل الشيطان، وبدأت الأفكار الكبيرة تختفى حين اختلف اليسار مع الدولة جلس فى بيته أو فى سجن الواحات وبقيت الديمقراطية حلما لم يكتمل، وتشردت هذه الجماعات فى الآفاق فلا هى استمرت ولا هى غيرت ورحل من رحل وصمت من صمت وانتهى الحال إلى هذا المجهول الغامض.. تذكرت بعض هذه التفاصيل وكيف كان النموذج الأمريكى أكثر الأفكار بريقا وجذبا وكيف انتهى به الحال إلى هذا العجز وهذا التراخى وهو يجلس على قمة العالم..
إن ما حدث فى أمريكا وخلفها الغرب لن يكون حدثاً عادياً مثل كل الأحداث نحن الآن أمام أمريكا الديمقراطية وأمريكا البطش بين أمريكا كورونا وأمريكا مارتن لوثر كينج وأمريكا جورج فلويد.. بين أمريكا ورئيسها الهارب فى أحد خنادق البيت الأبيض وأمريكا التى دمرت العراق وأفغانستان وسوريا واستباحت خيرات الشعوب واختارت أن تكون وسيلة دمار وقمع رغم أنها حملت دائما شعارات واحة الديمقراطية وحقوق الإنسان..
< أعلم أن الملايين من الحواريين فى محراب الديمقراطية الأمريكية يشعرون بالحزن لما وصل إليه صنم الحريات فى العالم، إن هؤلاء ليسوا أول الضحايا فهناك ملايين سبقوا وصدقوا هذه الخديعة، إن أمريكا كانت مع حقوق بعض الناس وليس كل الشعوب وكانت مع حريات استباحت الاستبداد ولم تكن مع النموذج الحقيقى للحريات وأمريكا أنفقت 300 مليار دولار على الحروب الخارجية - كما قال الرئيس كارتر للرئيس ترامب فى رسالة نشرها فى الأسبوع الماضى- إن أمريكا الحلم عادت أمريكا البيض والسود والعدوان على حقوق الشعوب.. هناك من أصيب بحالة من الحزن والألم وهو يرى أفكاراً عاش عليها وهى تتهاوى أمامه بين الوحدة فى البيت وأشباح كورونا وأحلام الديمقراطية التى عاشت عليها شعوب كثيرة وتحملت فى سبيلها عذابات السجون والتهميش والضياع..
< كنت صديقا لواحد من أنبل رموز اليسار المصرى وهو د.فؤاد مرسى رحمه الله، وقد اختاره الرئيس محمد أنور السادات وزيرا للتموين، وكان غاية فى الإخلاص لفكره ومواقفه وكان من أطهر رموز الفكر الشيوعى فى مصر، كنا أصدقاء رغم اختلافنا تماما فى الفكر والثوابت، وبعد أن ترك الوزارة كنت أزوره أحيانا فى بيته وحين سقط الاتحاد السوفيتى انهارت مواقف عدد كبير من رموز الفكر الاشتراكى فى مصر..
وذات يوم وفى زحمة الإخفاقات كنت أجلس مع د.فؤاد مرسى نتحدث فى أشياء كثيرة وكان الرجل حزينا ودمعت عيناه وهو يقول ماذا أفعل فى عمرى الذى مضى منه عشرات السنين وأنا أؤمن وأعيش وأحيا بهذا الفكر ثم انهار كل شيء.. ماذا أفعل بما بقى من العمر..
أتصور أن هناك الآن من يراجع نفسه كيف عاش هذه التجربة الطويلة مع أفكار تتهاوى وتتغير ولم تعد كما كانت أرضا للأحلام..
ما يحدث الآن زلزال فكرى سوف يغير كل ثوابت البشر والشعوب والأوطان.
ويبقى الشعر
ألمٌ.. ألمْ
مَاذا جنيتُ من الألمْ؟
وجهٌ كسيرٌ.. وابتساماتٌ..
كضوْء الصُّبْح بعثرها السَّأمْ..
حُلمٌ حزينٌ بين أطلال النـِّهايةِ..
فى ذبُول ٍ.. يبتسمْ
عُمْر على الطـُّرقات كالطفـْل اللـِّقيطِ..
يسائلُ الأيَّام عنْ أبٍ.. وأمْ
نهْر جريحٌ
تنزفُ الشطآنُ فى أعْماقهِ
حتـَّى سواقيهِ الحزينة ُ..
ماتَ فى فمهَا النغمْ
ندمٌ.. ندَمْ
ماذا جنيْتُ من الندَمْ؟
سيْفٌ تحنط فوْقَ صدْر النيل ِ..
يَحْكى قصَّة الزَّمَن الأشمْ
سجنـُوهُ فانتحَرَتْ أغانيهِ الجميلة ُ
وانزوتْ أحلامُه السَّـكرى
وصَارتْ كالعدَمْ
شطآنـُه الخضْراءُ تأكلـُها الأفاعِي
مَاؤه الفضّيُّ تسْكنه الرمّمْ
فى كلِّ شبْر ٍ..
منْ رُبُوع النـَّهْر أفاقُ
يبيعُ الناسَ جهْرًا.. والذممْ
منْ جاءَ بالوجْهِ الملطـَّخ بالخطايَا
كىْ يؤمَّ النـَّاسَ فى قلبِ الحرمْ
منْ جاءَ بالقلم الأجـِير
لكىْ يبيعَ لنا المَوَاعظ والحكمْ
لنْ يسْتوى سيْفٌ يسبِّحُ للضَلال..
وَسَيْف عَدْل ٍ.. قدْ حكمْ
عدمٌ.. عَدَمْ
ماذا جنيتُ من العَدَمْ؟
يبْكى أبُو الهَوْل المحطمُ فى ذهُول ٍ..
تعلنُ الأحْجارُ عصْيانَ الهرمْ
هلْ بعْدَ هذا العُمْر..
يسْقط تاجُهُ المرْصُودُ منْ نـُور ودَمْ؟
مَا بينَ أنصَافِ الرِّجَال ِ..
وباعَةِ الأوْهَام.. والغلـْمَان ِ
تنتحرُ الشـُّعوبُ..
وينـْزَوى فجْرُ الأمَمْ
مَازلتُ أمْضى فى الطـَّريق ِ..
وأسْألُ الزَّمنَ الجَبَانَ
بأنْ يثورَ.. وَيقتحِمْ
فيطلُّ منْ بيْن الخرَائبِ..
ألفُ دجَّال ٍ.. وألفُ مُقامر ٍ..
والكلُّ منْ جسْم الغنيمَةِ يقتسمْ
منْ علـَّم الوطنَ الجميلَ
بأنْ يبيعَ الإبن
فِى سُوق النـّخَاسَةِ والعَدَمْ؟
يَا أيُّها الوطنُ
الذى أسكنتهُ عيْنى
وأسْكننِى سَراديبَ النـَّدمْ
قمْ منْ ترابكَ
أطلِق الأحْجَارَ فى وجْهِ السُّكارَى..
والمَواخير الكئيبةِ..
لا تدعْ فى أيِّ رُكن ٍ منْ روابيهَا صنمْ
كلُّ الذى أبقتْ لنا الأيـَّامُ
فى الوَادى الجَميل
دموعُ حُزن ٍ.. أو ألمْ
مِنْ يا ُترى فِينَا ظُلمْ
مِنْ يا ُترى فِينَا ظَلَمْ
فَإَلى مَتَى..
سَيَظُّلُّ يَحْمِلُنَا زَمَاُن القَهْرِ
مِنْ هَمَّ.. لِهَمْ
وإَلَى مَتَى..
سَيَظُّلُّ أقْزَامُ الَّزمَانِ الَوَغْدِ
فِى أعْلَى القِمَمْ؟
وإَلَى مَتَي
سَنظُّلُّ نَجْرى فى القَطِيعِ..
وخَلْفَنا.. ذئب الغَنَمْ؟
«قصيدة وخلفنا ذئب الغنم سنة 1993»
نقلًا عن صحيفة الأهرام