سوف يظل الحديث عن العلاقات المصرية السودانية عاطفيًا وحساسًا ولا يتسم بالدقة ويفتقد الجرأة فى اقتحام المسكوت عنه، وأنا أجازف اليوم وأصدقائى فى السودان يدركون كم أعشق ذلك البلد الشقيق والذى نحب حديثه وثقافته بل وطعامه وشرابه كما أننا ندرك أن الجذور المصرية السودانية ضاربة فى أعماق التاريخ ولم تتوقف أبدًا، ولكننا ندرك فى الوقت ذاته أن هناك ركامًا كبيرًا من التراكمات التى تتسلل إلى العلاقات بين البلدين من حين لآخر تحت ذرائع معروفة تبدأ بالحساسيات التاريخية التى أسهمت فيها بريطانيا بالنصيب الأكبر، وصولًا إلى حلايب وشلاتين وهى مشكلة مصنوعة، مرورًا بالتأثيرات العقائدية التى طرأت على السودان فى الأحقاب الأخيرة وفى مقدمتها الاستخدامات الدينية التى تربط بين التدين السودانى والعداء المصطنع مع مصر، ولكى نكون صادقين فإننا نواجه أنفسنا قائلين بأن لدينا فى مصر مشكلات مماثلة كما تسللت إلى ثقافتنا أفكار ورؤى لا تختلف كثيرًا عن ذلك الذى يراه السواد الأعظم من الشعب السوداني، كما أن السودانيين يدركون أن مصر - دون أقطار العالم العربى الأخرى معنية بالسودان امتدادًا طبيعيًا لأوضاعها الداخلية ومصالحها الوطنية العليا، وواهم من يتصور أن النيل هو الشريان الوحيد الذى يربط بين شطرى الوادى فهناك تداخل عائلى وامتزاج أسرى يمتد حتى قرى الريف المصرى والسودانى ويتجاوز العاصمة والمدن الكبرى فى الدولتين، ومازلت أتذكر وأنا سفير فى العاصمة النمساوية أن جرى تعيين عم أحمد عبد الحليم البروفيسور المعروف - رحمه الله - سفيرًا للسودان فى النمسا وخرجنا، وفقًا للتقليد المعروف، كسفراء عرب وأفارقة لاستقبال الزميل القادم لينضم إلينا فى فيينا، وقدم المرافق الدبلوماسى من الخارجية النمساوية السفراء واحدًا تلو الآخر للدكتور أحمد عبد الحليم الذى صافحهم مبتسمًا، وما أن جاء ذكر اسمى كسفير لمصر إلا ووجدناه يحتضننى فى محبة صادقة ويقبلنى أمام الجميع بينما كانت العلاقات بين القاهرة والخرطوم متدهورة ومتأثرة بمحاولة اغتيال الرئيس الراحل مبارك فى أديس أبابا، وكانت العلاقات بين السفارتين المصرية والسودانية تكاد تكون نموذجية فى ذلك الوقت كما شاركت السفارتان فى إنشاء النادى النوبى بعاصمة النمسا، ومازلت أتذكر الصديق العزيز إبراهيم طه أيوب الذى كان سفيرًا للسودان فى الهند عندما كنت مستشارًا للسفارة المصرية هناك فى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وذات يوم أقام مأدبة إفطار لعدد من السفراء العرب وطلب منى الحضور مبكرًا لنتحدث سويًا وجلسنا وحدنا فى الصالون وأردت مجاملته فقلت له: إن النميرى حقق استقرارا فى السودان لأكثر من عشر سنوات, وقتها، فقال لي: إنه أكثر سوءًا من السادات، إذ لم يكن إبراهيم طه أيوب متحمسًا لسياسات الرئيس المصرى الراحل وأدهشتنى صراحته فى أنه سب رئيسى الدولتين فى جملة واحدة! فالسودانيون صرحاء واضحون, أو هكذا كانوا، لذلك كانت الصدمة قاسية للشارع المصرى عندما وجدنا سودان البشير يتخذ موقفًا مؤيدًا للسياسة الإثيوبية فى موضوع سد النهضة، وشعر المصريون بالألم لأننا ندرك المخاطر الحقيقية للسد على السودان قبل مصر بخلاف ما روجت له أجهزة البشير من مزايا لذلك السد فى قطاعات الكهرباء واستصلاح الأراضى والزراعة للشعب السودانى غافلين عن أن السد تقف وراءه أيديولوجية سياسية وليست فقط أهداف تنموية، فهو سد كيدى بامتياز وفيه استفزاز لمصر ومحاولة لخنقها من المنبع وقد نسى الاثيوبيون أن ما يفعلونه هو تصرف ضد حركة التاريخ وأن آثاره السلبية على المدى الطويل سوف تقع عليهم بالدرجة الأولى مهما كانوا مستندين إلى دعم أجنبى أو أن هناك من يهمس لهم بأن إضعاف مصر هو تمكين لهم ولغيرهم من جيران مصر المباشرين! ولقد استبشرت شخصيًا خيرًا بسقوط نظام البشير لأن الشعب السودانى أبيٌّ بطبيعته، قوى بفطرته، عبقرى فى المزج بين البعدين العربى والإفريقى على نحو يراهن عليه الطرفان بين الحين والآخر، ولا أزعم أن هناك دافعًا شخصيًا تجاه كراهيتى لنظام البشير فقد قلت منذ أكثر من عشرين عامًا انه أسوأ نظام عرفه السودان الحديث لأنه كان لا يفرق بين الخصم والصديق، ولا يعنيه الحفاظ على الشقيق، وتتأرجح مواقفه بين دول الخليج وإيران صباح مساء بل وارتمى قبل سقوطه فى أحضان أردوغان العدو الحالى لكل الإنجازات المصرية أو النجاحات العربية، ويهمنى هنا أن أطرح على الأخوة فى السودان وإثيوبيا الملاحظتين التاليتين:
أولًا: إن التاريخ والجغرافيا يصنعان المواقف السياسية فى الحاضر والمستقبل وصنع العداوات واستفزاز طرف لآخر هو تفكير قصير النظر ولا يعكس الحقيقة كما أنه دليل على العجز لأن الحياة لنا ولكم جميعًا ونحن فى قارب واحد، ولعل كارثة الكورونا قد علمتنا جميعًا حاجة كل طرف إلى دعم الطرف الآخر والانضواء تحت مظلة الإنسانية المشتركة.
ثانيًا: لن تتحكم الدولة الإثيوبية, التى تربطنا بها أواصر تاريخية وثقافية ودينية يعرفها الجميع, فى حياة أكثر من مائة مليون مصرى فضلًا عما يقرب من نصف هذا العدد فى السودان الشقيق, ولذلك فإن لغة العصر هى التعايش المشترك وأسلوب الحياة هو حل المشكلات بالطرق السلمية حفاظًا على الجو العام فى المنطقة، ولتتذكر الأطراف الثلاث, مصر والسودان وإثيوبيا, أن هناك آفاقًا ضخمة للتعاون الذى تفوق إيجابياته سد النهضة عشرات المرات إذا صدقت النوايا وخلصت الضمائر.
لتكن كلمتى الأخيرة, بعد هذه السطور, كمواطن عربى إفريقى أن أردد مع الجميع أننا لا نريد لغيرنا أن يقهر إرادتنا وفى الوقت ذاته لا نسمح لأنفسنا بتعطيل تنمية طرف آخر شريطة أن يقوم الأمر على مبدأ توازن المزايا فى تسوية شاملة تقبلها كل الأطراف أما ما عدا ذلك فسوف يدفع بنزيف متدفق من النزاعات والصراعات مع شيوع خطاب الكراهية ولغة الاستفزاز والتراشق بالتصريحات بينما نستطيع أن نعيش جميعًا فى سلام واستقرار وازدهار خصوصًا وأن مياه النهر الخالد تكفينا وتزيد والأمر متروك لإرادتنا نحن الدول الثلاث التى ربطها النيل ولن يفصلها أبدًا.
نقلا عن صحيفة الأهرام