Close ad
13-5-2020 | 15:04

المعركة مع فيروس كورونا ليست مثل المعارك التي تجري مع الدول من أجل مصالحها المتناقضة في الأرض والموارد والمكانة أو في إعلاء قيمة من القيم العليا حيث تنتهي دائما بنصر وهزيمة، ومنتصر ومهزوم. معارك الطبيعة لا يكون فيها مثل هذه المواجهة، لأن العدو ليس أرضا وماء ومصالح وتاريخ وجغرافيا، هو حالة تهدد إما مجموعات من البشر في الزلازل والأعاصير، أو البشرية كلها كما هو الحال مع الفيروسات والميكروبات التي لو تركت لحالها لأدت إلي نوع من الإبادة لملايين من البشر بغض النظر عن هويتهم الدينية أو القومية.

الفيروس ليس لديه هذه الدرجة من التمييز، وهو لا يفرق ولا يستثني إلا إذا كان هناك من لديه قدر من المناعة التي تصد وتمنع. في مثل هذه الحالات فإن الإنسان يتكيف مع الواقع كما تكيف مع مئات من الأمراض والعواصف وانفجار البراكين من قبل، إما بإنتاج اللقاح والدواء أو باتخاذ إجراءات تمنع العدوي والانتشار. في مثل هذه الحالات فإن الحياة تستمر، ولكنها لا تصبح كما كانت، ويصبح العالم ليس كما كان لأن الفيروس بات يفرض تغييرات في السلوك الإنساني لم يكن ممكنا تصورها من قبل.

 

مطارات العالم كلها تغيرت خلال العقود الماضية منذ دخول المسافر حتي خروجه من الطائرة وذلك بسبب عدو هو الآخر مثل الفيروسات ليس مرئيا وهو خطر الإرهاب. استمر السفر ولكن ليس كما كان، ومثل هذا يسمي تكيفا إذا توسعنا فيه لتغطية الكثير من التصرفات والسلوكيات صار تعايشا شاملا في أنماط الحياة المختلفة مع الخطر الجديد. دعوة الحكومة المصرية للعودة التدريجية للحياة الطبيعية، والتعايش مع كوفيد -١٩ هو أولا يسير مع ما وصل إليه العالم في هذه المرحلة من التعامل مع الخطر؛ وهو ثانيا يأخذ في الحسبان الظروف المصرية في ضرورة الاستمرار في مسيرة التنمية التي بدأت منذ سنوات قليلة ولا ينبغي أو يجوز لهذا الجيل أن يفرط فيها بإخفاق تاريخي آخر.

ولحسن الحظ أن العالم ليس جديدا علي الأزمات العالمية التي تخص العالم كله وليس بلدا بعينه، ومن ثم فإن التعلم منها دفع تقريبا كل دول العالم للبدء المبكر لزيادة الإنفاق الحكومي لإبقاء الاقتصاد متحركا، وجاهزا للانطلاق عندما تتوافر ظروف إنتاج اللقاح والدواء الذي يجعل الفيروس ينضم إلي سلسلة طويلة من الكائنات التي جري ترويضها فصارت مستأنسة، أو تم ترويضها لكي يكون لها طبيعة موسمية أو تنقرض تماما. الإنسان جعل من أمراض التيفويد والملاريا وشلل الأطفال وأشكال من الانفلونزا جزءا من الماضي، وعندما تخرج إلي السطح يتم حصارها وعزلها أو في حالات خلق ما يناسبها من إجراءات.

حتي يحدث ذلك فإن العالم حتي الآن يتخذ الإجراءات التي تجعل القدرات الاقتصادية مستمرة الفاعلية، فلا تحل المجاعة مكان المرض في تعريض حياة الإنسان للخطر. وفي الثلاثينيات من القرن الماضي حدث الكساد الاقتصادي الرهيب الذي جعل الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت يندفع في تنفيذ عشرات من مشروعات البنية الأساسية العملاقة مثل كهربة الريف الأمريكي، وخلق شبكات عظمي من الطرق والسكك الحديدية التي تربط بين الولايات المختلفة.

الآن فإن الدول التي حققت ذلك من قبل فإنها هذه المرة مع الفيروس دفعت بحزم كبيرة من الإنفاق لكي تبقي القوة الشرائية جاهزة لإنعاش السوق الاقتصادية وتحقيق النمو الضروري. ولحسن حظنا في مصر أن الجائحة جاءت أثناء تنفيذ أكبر حزمة من أعمال البنية الأساسية عرفتها مصر في تاريخها المعاصر؛ وأكثر من ذلك فإن الفيروس لم يوقف هذه المسيرة وحتي الآن لم توجد دلائل أن مناطق البناء شهدت موجات من الإصابة لأن العاملين فيها كانوا الأكثر استعدادا للتعامل الحصيف مع المرض وعدواه.

ورغم أن مصر مقارنة بالمعدلات العالمية ظلت في مكانة تحسدها عليها الكثير من الدول الأخري التي استبد بها الفيروس؛ فإن كثيرا من الدراسات باتت مطلوبة للمناطق التي اشتدت بها العدوي والإصابة، وتلك التي لم تشكل بيئة داعية له. الإصابات الأولي حدثت نتيجة الاختلاط مع الخارج وهو طبيعي بالنسبة لدولة تشكل فيها السياحة جزءا مهما من اقتصادها؛ ونتيجة الاعتماد علي الخارج في سلاسل الإمداد للصناعات المختلفة.

ولكن كثرة من الإصابات حدثت في العموم نتيجة عدم الانضباط الاجتماعي وتقاليد وعادات غالبة خاصة في الريف المصري. التعامل مع ذلك وتغييره سوف يكون جزءا مهما من عملية التكيف والتعايش المطلوبة التي لن تكون ممكنة إلا بحزم الدولة من ناحية، ودور أساسي للإعلام من ناحية أخري. ومن ناحية ثالثة فإن الاستخدام الواسع لتكنولوجيا الاستشعار الحرارية في المطارات ومراكز التسوق الكبري، وكل ما يتعرض لأعداد كبيرة من البشر سوف يكون حاميا للمصريين، وجاذبا لمن يأتي من أجل الاستثمار أو السياحة لأن الحماية من المرض سوف تكون جزءا أساسيا من الأمن والأمان الذي يميز دولة عن أخري. التعايش والتكيف مع الفيروس حتي بعد تحجيمه بعد اللقاح والدواء يفرض أن تكون خططنا المقبلة منتهزة للفرص التي اكتشفناها نتيجة الجائحة: أولا، تحويل القطاع الصحي إلي صناعة كبري يتناسب تماما مع بلد كثيف السكان وفيه سوق كبيرة للمنتجات الطبية والغذائية، ويتكامل مع المزايا السياحية النسبية للدولة.

وثانيا، تحقيق دفعة كبري للإمكانيات الرقمية للدولة والتوسع في تطبيقاتها وزيادة سرعاتها ومضاعفة تطبيقاتها الخدمية في المجتمع. وثالثا أن الصيحة العالمية الحالية لما بعد الكورونا تميل بشدة إلي مواجهة الأزمات الكونية القادمة الخاصة بالاحتباس الحراري من خلال تقليل الاعتماد علي الطاقة الأحفورية، والاتجاه نحو أنواع الطاقة المتجددة لمنع الكارثة الكونية القادمة. مصر بالفعل بدأت الاعتماد المتوازن علي جانبي أنواع الطاقة بحيث تتعامل بإيجابية مع الاتجاه العالمي للاعتماد علي الطاقة الشمسية من ناحية، وفي الوقت نفسه تحقيق قفزة في استخدامات الغاز الطبيعي داخل مصر في الصناعة والمواصلات طالما تزايدت احتمالات استمرار انخفاض الأسعار خلال المرحلة المقبلة.

 

والمؤكد هو أن هناك أفكارا أخري كثيرة.

نقلا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
الأكثر قراءة