قبل إقدامنا على أي عمل أو فعل لابد من دراسته جيدًا؛ لبيان غايته ومدى نفعه أو ضرره، فالطالب يكد ويكدح في مذاكرته ساعاتٍ وأيامًا وسنوات متعاقبة، لكي يبني مستقبلًا واعدًا يمنحه حياة طيبة رغدة، وفي سعيه يتجنب تمامًا كل ما من شأنه التأثير على بلوغه هدفه المنشود، برغم أنف ما يحيط به من مغريات يسيل لها اللعاب.
بالقياس على القاعدة السالفة، فإن الأصل في احتفالاتنا بالمناسبات الدينية والدنيوية أن تُدخل السرور والبهجة على نفوسنا ونفوس القريبين منا في دوائرنا الأسرية والاجتماعية، فلا فائدة ولا رجاء من وراء ما يمكنه أن يعكر صفو حياتنا، حينها لن يكون احتفالًا، بل سيرٌ على طريق الهلاك والأذى البالغ.
وإن كانت تلك القاعدة الذهبية مطبقة في الأوقات العادية الخالية من المنغصات والعثرات، فما بالك إن كنا نمر بأزمة ساحقة ماحقة مثل فيروس كورونا، الذي حصد أرواح الآلاف، وأصاب قرابة المليوني شخص في مختلف دول العالم، فهي تفرض علينا فرضًا الالتزام بها وبشروطها بكل قوتنا من أجل مصلحتنا ومصلحة من نحب ونحرص عليه.
واليوم سنكون جميعًا أمام اختبار صعب يتحتم علينا اجتيازه وبنجاح، اختبار الالتزام بالإجراءات الاحترازية في "شم النسيم"، هذه المناسبة التي كنا نطلق فيها العنان لأنفسنا بالخروج للمتنزهات العامة، والاستمتاع بتجمع أفراد الأسرة، فهي لا تحلو وليس لها طعم حلو إلا باللمة وإظهار عزوتنا كما نقول.
غير أن ظروفنا الحالية لا تسمح لنا بهذه الرفاهية التي اعتدناها من قديم الأزل، فالتجمعات ستتحول لتربة خصبة لانتشار الفيروس، الذي تعمل الدولة المصرية على حصاره بإجراءات وتدابير احترازية محكمة حدت كثيرًا من فرص انتشاره.
ولا بأس من أن نغير عاداتنا المتوارثة، وأن تكون احتفالاتنا داخل منازلنا ولنفعل داخلها ما نشتهي ويطيب لنا؛ لأننا بذلك نوفر ونمد مظلة حماية للوطن وللمواطنين، ولننظر لحجم العائد المرجو من اقتصار الاحتفالات بشم النسيم على المنزل، والذي يفوق بمراحل ما سنحصده من بضع ساعات كنا سنمضيها على الشواطئ، وبالحدائق العامة، والرحلات النيلية.. إلخ، فمن جهة سيقلل ابتعادنا عن الاختلاط مع الآخرين من فرصة إصابة المزيد من المصريين بالفيروس القاتل، ومن جهة أخرى سيقود لاحقًا لتخفيف الإجراءات الاحترازية المطبقة، وسنهيئ المناخ الملائم لاستعادة وتيرة حياتنا الطبيعية تدريجيًا، وتكثيف أنشطتنا الاقتصادية، ومساعدة الأشخاص والأطراف المتضررة من تعطل العديد من المظاهر الحياتية والاقتصادية.
حينها سوف نشعر بأن تضحيتنا بمتعتنا الشخصية لها مردود نافع يستحق قبولنا إياها بنفس راضية وبدون أي غضاضة أو إحساس بالحسرة والألم، ونحن في زمن يتطلب تكاتفنا مع بعضنا ومع الدولة التي تبذل جهدًا خارقًا أظهر مدى كفاءتها وكفاءة أجهزتها ومؤسساتها، وأنها قرأت المشهد مبكرًا واستعدت له ولما يطرأ عليه من تغيرات، خاصة أن أزمة كورونا غير مسبوقة في طبيعتها وما تسببت فيه من أضرار فادحة على المستوى العالمي والمحلي، ويستلزم علاج آثارها مدة ليست بالقليلة، وبعد انتهائها - الذي نأمل أن يكون قريبًا - سيتعين على الجميع الاستفادة من دروسها، وسد الثغرات التي كشفتها؛ سواء في النظام الصحي العالمي، أو إجراءات السلامة والصحة العامة المتبعة بأماكن العمل وغيرها من الأماكن، وكذلك سلوكياتنا الشخصية التلقائية.
كلي ثقة بأن المصريين بوعيهم وبذكائهم الفطري حريصون - لأبعد حد يمكننا تصوره - على عبورنا بسلام جائحة كورونا، وأنهم ينظرون بعقولهم الثاقبة لما هو أبعد وأرحب من مجرد احتفال ما في الهواء الطلق، ويعرفون جيدًا أن عليهم اجتياز الاختبار الصعب بامتياز، وهم قادرون على ذلك.
حفظ الله مصر وشعبها من كل سوء وشر.