غالباً ما يضم "المسكوت عنه" في تراثنا الموسيقى سيراً رائعة لنجوم زمن الفن الجميل، من أولئك الذين اشتهروا بأعمال فنية في فترة ما، قبل أن تنحسر عنهم أضواء الشهرة، ويذهبون فجأة في ثنايا النسيان، ويصبحون ما بين ليلة وضحاها وجهاً مألوفاً من "مظاليم الفن".
موضوعات مقترحة
لم يلف الغموض سيرة أحد شعراء الأغنية المصرية كما فعل مع الشاعر الغنائي محمود فهمي إبراهيم، فلا نكاد نعثر على تاريخ ميلاده أو وفاته، ولم نظفر أيضاً بصورة واحدة له، رحل ولم يترك لنا سوى بضع أغنيات نرددها بين الحين والآخر، فمن هو ذلك الشاعر الذي كتب لعبد المطلب "حبيتك وبحبك وهحبك على طول"، وكتب لفريد الأطرش "يا مقبل يوم وليلة" لتتراقص على نغماتها هند رستم "مارلين مونرو الشرق" في القطار؟.
طرف الخيط الذي يقود عن المعلومة الوحيدة عن هذا الشاعر، أنه بدأ حياته ماسحاً للأحذية أمام كازينو "بديعة مصابني" بحسب الشاعر الغنائي الكبير مأمون الشناوي، فمنظومة الإبداع في هذه الأكاديمية الفنية الموسيقية والاستعراضية أبت إلا أن يكون ماسح الأحذية أمام الكازينو شاعرا مبدعا بحاجة إلى الاكتشاف.
ولأكثر من ربع قرن من الزمان شكل "كازينو بديعة" أكاديمية فنية كبرى لاكتشاف كبار النجوم من المطربين والممثلين وراقصي الاستعراض من أمثال فريد الأطرش، ومحمد فوزي، ومحمود الشريف، وشكوكو، وعزت الجاهلي، وعبد العزيز محمود، ومحمد عبد المطلب، وتحية كاريوكا، وسامية جمال، وغيرهم الكثير.
وأثناء ترددهم لإحياء ليالي بديعة الصاخبة على نيل القاهرة، التفت هؤلاء النجوم إلى ماسح الأحذية "محمود فهمي إبراهيم" الذي يمارس هوايته في كتابة الأغاني والمونولوجات حين كان يفرغ من تلميع الأحذية، ولفتوا نظر بديعة إلى موهبته المهددة بالضياع بين الأحذية، وبالفعل أسندت له بديعة كتابة بعض المونولوجات، والأدوار، والاسكتشات الفكاهية التي نالت إعجاب رواد الكازينو.
كان فريد الأطرش هو أكثر المتحمسين لموهبة محمود فهمي إبراهيم، وأسند إليه تأليف أغاني عديدة حققت الشهرة والذيوع في أفلامه الغنائية والاستعراضية، وفرضت كلمات فهمي إبراهيم التي تجمع بين خفة الدم والرشاقة والجمال نفسها على المستمعين، حتى إن الكثيرين قد ظنوا بأنها لرائد مدرسة الأغاني السينمائية أبو السعود الإبياري، أو لفكهانى الكلمات الشاعر الطريف فتحى قورة.
كانت أغنية "يا ليل يا مافيك سهارى" أول أغاني محمود فهمي إبراهيم لفريد الأطرش في فيلم "ما اقدرش" مع تحية كاريوكا عام 1946، ثم تبعه بأغنية "تعالى سلم" وهي التي صارت اسمًا لأنجح أفلام فريد الأطرش مع سامية جمال عام 1951، ثم كتب دويتو "مالكش حق" لفريد ونور الهدى في فيلم "ما تقولش لحد" عام 1952.
هنا أصبح محمود فهمي إبراهيم واحداً من كتاب أغاني فريد الأطرش الذين أعانوه كثيرا في أغاني أفلامه مثل عبد العزيز سلام، ويوسف بدروس، وأنور عبد الله، وفتحي قورة، لكن أغنية واحدة كتبها محمود فهمي إبراهيم تسببت في نسج قصة من أشهر قصص الوسط الفني والسياسي عام 1954 لم ينهها سوى تدخل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
تعود أحداث هذه القصة حين طلق الملك فاروق زوجته ناريمان في إيطاليا وعودتها إلى مصر، كان فريد خارجاً لتوه من قصة حب ملتهبة مع الفنانة سامية جمال أدت إلى إنهاء التعاون الفني بينهما، وهنا صادف فريد حبه القديم متمثلا في شخص الملكة التي كان يحبها قبل زواج الملك منها، وتكرر ظهورهما، ودعاها لأكثر من مرة لحضور حفلاته وافتتاح أفلامه الغنائية.
كان فريد آنذاك يحضر لفيلم "لحن حبى" مع صباح وليلى الجزائرية، حينها كلف شاعره محمود فهمى إبراهيم لكتابة أغنية تظهر حبه للملكة ناريمان، فكانت أغنية "نورا" والتي تقول كلماتها" نورا ..نورا يا نورا ..يا قمراية في بنورة..اسمك على رسمك صورة، يا قمراية يا قمورة" بل إن فهمى إبراهيم زاوج بين الغنوة والموال فكتب "يا حلو ياللى الهوا هفهف على توبك ..أغير عليك من الهوا واحسد عليك توبك.. مجروح ومالك دوا يا قلبى مكتوبك..اسمك على رسمك لايق.. سبحان من أبدع رسمك.. يا ندى الصبحية الرايق..اسم الله يا نور على اسمك..يا ليالي العيد من غير مواعيد.. وأبو حظ سعيد للي تحن عليه نورا".
شاعت هذه الأغنية على الألسنة، وأطلقها فريد كنوع من الترويج للفيلم قبل عرضه، فما كان من والدة الملكة إلا أن أعلنت غضبها العارم، وصرحت للصحف بأن ملكة مصر السابقة لا يمكن أن ترتبط بمغنٍ مهما كان، وهنا أصيب فريد بجرح غائر في كرامته، وأعلن أنه لايقل في النسب عن ناريمان، وأن جده سلطان باشا الأطرش كان ملكا على الدروز، وأن عوده قد جعله ملكا على عرش الألحان، وأصيب بحالة اكتئاب شديدة قادته إلى الذبحة الصدرية، وكانت سببا في مرض القلب الذي عانى منه فريد حتى وفاته في السادس والعشرين من ديسمبر عام 1974.
غاب فريد عن العرض الأول لفيلم "لحن حبي"، فما كان من الرئيس جمال عبد الناصر أن يحضر افتتاح العرض الأول للفيلم بدلا من فريد الأطرش الذي كان يتلقى العلاج في المستشفى، وعُد ذلك التدخل جبرا لخاطر فريد مما أحدثته الملكة السابقة، وقد غنى فريد الأطرش فور خروجه أغنية وطنية تسمى "انتباه" فور خروجه من كلمات محمود فهمي إبراهيم.
تواصل التعاون بين فهمي وفريد عام 1956 حين كتب له أغاني فيلمي "إزاى أنساك" مع صباح فكتب لها أغنيتها الشهيرة "زنوبة"، وكتب له أغنية "وحداني هعيش كدة وحداني. ولا أقول يا غرام أبدا تانى"، مع شادية في فيلم "ودعت حبك".
وشهد عام 1957 ذروة ما أبدعه محمود فهمي إبراهيم لفريد الأطرش حين كتب له مجموعة من أشهر أغانيه في الفيلم الكوميدي الغنائي "انت حبيبي" من بطولة شادية، وهند رستم، وعبد السلام النابلسي، وإخراج يوسف شاهين، فكتب لشادية أغنية "يكونش ده اللي اسمه الهوا.. اللي مالوش في الكون دوا"، ثم كتب الدويتو الشهير بين فريد الأطرش وشادية "زينة والله زينة"، كما كتب لفريد أغنية "يا مقبل يوم وليلة..أطوى السكة الطويلة ..ودينى بلد المحبوب"، وهى الأغنية التي رقصت عليها هند رستم في القطار، وتفيض كلماتها بالجمال والبساطة والرشاقة بدرجة جعلتها تتردد على الألسن بين المصريين الذين عشقوا صورة "الفلاحة" التي غنى لها فريد الأطرش.
وهنا نجد انقطاعا فنيا مفاجئًا بين فريد وفهمي إبراهيم فلا نجد أي أغنية أخرى كتبها لفريد، وربما يعود ذلك إلى وفاة الشاعر الذي لم نحفظ له سيرة شخصية على الإطلاق.
لكن تعاون محمود فهمي إبراهيم لم يقتصر على فريد بل نجده أحد أشهر كتاب المونولوجات لشكوكو فكتب له مونولوج "الدخان"، وكتب له البرنامج الإذاعي الغنائي "قهوة كوكو"، وهي من تلحين الموسيقار محمود الشريف، وعبر أثير الإذاعة كتب عدة برامج غنائية أخرى منها أوبريت "قف من أنت"، وهو من الأوبريتات النادرة التي غنى فيها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في بداياته مع شقيقه إسماعيل شبانة.
أبى فهمي إبراهيم أن يرحل دون أن يترك جوهرة غنائية عهد بتلحينها وغنائها لصديقين قديمين في "كازينو بديعة"، هما محمد عبد المطلب والملحن عزت الجاهلي، وهى أغنية "حبيتك وبحبك وهحبك على طول" التي اقترنت كثيرا بذاكرة الرومانسية عند المصريين، فمن ينسى هذه الكلمات " حبيتك وبحبك وححبك على طول.. موش خاين ونسيتك زي انت ما بتقول.. حبيتك وبحبك وهحبك على طول.. ولاحيأس من بعدك ولا اشبع من قربك..أنا راضي بقسايا .. وهنايا برضاك.. من قلك يا منايا.. إني في يوم انساك.. انا عيني اللي تجاوبك.. وتصارحك وتقول.. حبيتك وبحبك وهحبك على طول".