فى حياة الشعوب والأوطان تفاصيل وأشياء قد تبدو صغيرة فى أهميتها، إلا أنها فى الغالب بمثابة «بصمتهم الوراثية»، فهى تعبر عن تاريخ يحتضنونه وحاضر يعيشونه، تلك التفاصيل يمكن أن تتمثل فى كلمة أو جملة تقال بصوت حماسى، كفيلة بأن تبعث الأمل فى نفوس مستمعيها وتمنيهم ببدء عهد جديد. «سيداتى سادتى، من فضلكم رحبوا معى بالرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية»، بهذه الكلمات اعتاد تشارلى بروتمان، أحد أشهر مذيعى واشنطن، أن يطل على الشعب الأمريكى، معلنا عن قدوم الرئيس الجديد، فلطالما كان صوته الرخيم مصاحبا لمعظم الرؤساء فى كل عرض افتتاحى خاص بمراسم تنصيبهم.
موضوعات مقترحة
القائمة طويلة وتمتد عقودا، بدءا من أيزنهاور،كينيدى، جونسون، ونيكسون، وصولا إلى باراك أوباما، حيث رافق صوته الاستعراضى 11 رئيسا أمريكيا أثناء سيرهم إلى البيت الأبيض، وباستثناء حفل تنصيب دونالد ترامب عام 2017، استطاع صوت بروتمان أن يلهب حماس الجميع، سواء الحاضرون من العائلات والضيوف الأوائل أو الجمهور العادى فى المنازل. أكثر من ٧٠ عاما قضاها بروتمان، وهو يقوم بإذاعة حفلات التنصيب بصوته، لم يتقاض المذيع المحترف أى أموال مقابل ذلك، فمن وجهة نظره هذه اللحظات التاريخية لا تقدر بمال، قائلا: «سأدفع لهم مقابل القيام بذلك»!، فهو يرى نفسه «عيون وآذان الرئيس»، إذ لا يمكن للرئيس رؤية ما سيأتى تاليا فى العرض، وهو الوحيد القادر على ملء الوقت بإطلاق النكات والحكايات التاريخية، حين يتوقف الجميع لمشاهدة العروض.
لم يُسأل تشارلى قط عن انتمائه، سواء كان جمهوريا أو ديمقراطيا أو مستقلا، فجميع الرؤساء الذين تعاقبوا عليه لم يهتموا بذلك أبدا، وإنما كانوا على قناعة بأنه يؤدى عمله «باحترافية شديدة»، فهو «كنزهم الوطنى» كما يحب للإعلام أن يصفه دائما.
لذلك لم يكن مفاجئا أن يختاره، جوزيف بايدن، ليعود ويعلق من جديد بصوته المميز، على تفاصيل حفل تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، خاصة بعدما أنهت اللجنة الرئاسية للرئيس السابق دونالد ترامب فى عام 2017، عمل بروتمان كمذيع، واختارت بدلا منه الإذاعى والموالى لترامب، ستيف راى، لتقديم الحفل. حاولت اللجنة تخفيف الضربة من خلال دعوة بروتمان إلى حضور الحفل، بصفته «مذيع الرئيس الفخرى»، لكنه اعتذر قائلا: «لقد حطم ذلك قلبى».
عودة الرجل العجوز ذى الـ 93 عاما، لممارسة مهنته المفضلة مرة أخرى، أدخلت السعادة فى قلبه، حتى إن كانت عودة «إلكترونية» فى إعلان «مسجل مسبقا» بسبب إجراءات كورونا، حتى لو لم يتسن له الوجود فى شرفته الإذاعية المطلة على شارع بنسلفانيا، ليكون «صديقا مع الرئيس لمدة خمس دقائق تقريبا»، كما كان يفعل عادة أثناء العرض، لكن بروتمان كان سعيدا بالعودة لاستكمال مسيرته الحافلة التى ضمت 16 حفلا افتتاحيا، والتى بدأت حينما كان طالبا فى الأكاديمية الوطنية للبث الإذاعى فى مسقط رأسه بواشنطن، وقتها طلب منه إذاعة أول حفل تنصيب رئاسى، يتم بثه عبر شاشات التليفزيون، وكان للرئيس هارى ترومان عام 1949، وبعدها بثمانى سنوات، اختاره أعضاء مجلس الشيوخ بواشنطن لإذاعة حفل افتتاح مباريات البيسبول، بحضور الرئيس دوايت أيزنهاور، والذى أعجب بأداء بروتمان بشدة وعينه المذيع الرسمى لحفلات التنصيب.
تلمع عينا بروتمان ويضحك وجهه المليء بالتجاعيد، وهو يتذكر خلال حديثة لمجلة «تايم» الأمريكية، أفضل الحفلات بالنسبة له، فهو يرى بخبرته الطويلة، أن هذا الحدث يعكس دوما شخصية الرئيس. فمثلا كان الرئيس أيزنهاور يتمتع بشخصية عسكرية، وكان يعتقد أن حفلات التنصيب ما هى إلا «مضيعة للوقت»، لذلك لم يستغرق الحفل سوى ساعتين فقط، أما تنصيب الرئيس جون كينيدى ورونالد ريجان، على سبيل المثال، كانا مختلفين تماما، مع قائمة لا تقبل المنافسة من مشاهير هوليوود فى الدرجة الأولى، واستمر كل منهما أكثر من 4 ساعات.
كانت هناك أيضا لحظات استثنائية، كتلك المناقشة القصيرة التى أجراها تشارلى بروتمان مع الرئيس الأسبق باراك أوباما، خلال حفل تنصيبه، وأعرب فيها الأول عن إحباطه من اختيار أوباما لشباب المدارس الصغار لإحياء الحفل، بدلا من مشاهير الموسيقيين والفنانين والرياضيين، وجاء رد أوباما بأن هؤلاء «الشباب الصغار» سيتذكرون هذا الحدث لبقية حياتهم، وقد أثار ذلك إعجاب المذيع لشعوره بأن أوباما يولى أهمية خاصة بالشباب الأمريكى.
أما أكثر اللحظات المحرجة فكانت فى حفل تنصيب جورج دبليو بوش، فى ذلك الوقت كانت واشنطن قد أنشأت للتو فريق بيسبول جديدا، وخلال العرض وبينما توقف الرئيس بوش عند المنطقة الخاصة بالمذيع, صرخ بروتمان قائلا: «السيد الرئيس.. أعلم أن لديك فريق بيسبول فى تكساس، لدينا فريق هنا وأود أن أدعوكم لرمى الكرة الأولى فى يوم الافتتاح»، نظر بوش لأعلى ولوح له واكتفى بهز كتفيه كأنه يقول «لا أعرف» وبعد نحو 20 ثانية، هرع رجل ضخم قوى البنية إلى المذيع المتحمس وبلهجة شديدة قال: «أنا من الجهاز السرى، وأحذرك، لا تتحدث مع الرئيس مباشرة، هل تفهم؟».