يعيش العالم الآن وربما لعدة عقود قادمة، مرحلة سيولة ومخاض لنظام دولى جديد، سيسيطر فيه الفائزون من أزمة كورونا على النظام الدولي، وستفرض هذه المرحلة التى قدرها الخبراء بـ20 عاما على الأقل، تحديات مصيرية على المنطقة العربية والشرق الأوسط، كما ستخلق فرصًا جديدة لن يفوز بها إلا من استعد لها، فما هى تلك التحديات المصيرية وما هى الفرص الممكنة أمام الدول العربية؟ هذه هى تساؤلات منتديين من أكبر المنتديات العالمية عقدا فى المنطقة، الأول هو قمة المنامة الأمنية الـ 16 التى تعقد سنويا تحت اسم حوار المنامة، بمشاركة وزراء خارجية ودفاع وقادة جيوش وأجهزة استخبارات وخبراء من 40 دولة، فى الفترة من 4 إلى 6 ديسمبر ، والثانى هو منتدى الأمن العالمي، وعقد فى أبوظبى بالإمارات فى الفترة من 15 إلى 17 ديسمبر، وحضره قيادات عسكرية وأمنية وخبراء من 35 دولة فى العالم ، وكانت «الأهرام» حاضرة لهذين المنتديين اللذين بحثا سيناريو ماذا سيكون عليه عالم ما بعد كورونا؟، وما هى التحديات والفرص أمام الدول العربية؟ .
موضوعات مقترحة
ويرى الخبراء ومنهم توم بكيت مدير المعهد الدولى للدراسات الإستراتيجية (IISS) بلندن، أن أزمة كورونا أثرت على مجمل العلاقات الدولية فى عام 2020 بالسلب، حيث سيطرت الصراعات الجيوسياسية بنسبة قدرها الخبراء ب 36%، منها 16% ارتبطت مباشرة بجائحة كورونا، بينما أوجه التعاون حازت على 64 % من مجمل تفاعلات العلاقات الدولية، وكانت هذه النسب فى عام 2019، للتعاون 80%، وللصراعات والأزمات والتوترات 20%، ورغم أن معظم هذه الصراعات كانت لها أسبابها الخاصة، إلا أن كورونا قد زادها حدة واشتعالا، وستستمر وبشكل شرس بين الصين وأمريكا وروسيا، خاصة فيما يتعلق بالتجارة الدولية والتكنولوجيا، كما يرى الخبراء ومنهم ايكارت واردز مدير معهد دراسات الشرق الأوسط.
وفى إطار حالة السيولة ستحدث استقطابات دولية، مع أحد الأطراف الثلاثة فى مواجهة الآخرين، فى حرب باردة جديدة، كما ترى وزيرة خارجية كوريا الجنوبية كانج كيونج، وهذا يفسر حجم الزحف والتواجد الصينى فى عدد من دول الهند الصينية كفيتنام وكمبوديا وغيرها فى إفريقيا والشرق الأوسط، كباكستان وإيران ومغازلة عدة دول عربية أخري، وكذا يفسر التمسك الروسى بالوجود فى دول وسط آسيا وبعض دول شرق أوروبا، كصربيا والشرق الأوسط كسوريا، والتمدد من خلالها نحو أوروبا الغربية والشرق الأوسط وإفريقيا ، مستغلة الفرص التى تتيحها لها الصراعات فى دول المنطقة فى الشام وشمال إفريقيا، كما يفسر المعركة الغريبة حول أسعار النفط ضد السعودية التى أشعلها بوتين، كما أن هاتين الدولتين تسعيان إلى إضعاف وتفكيك حلف الناتو، سواء بإغراء تركيا بمزيد من المكاسب حال انفصالها عن هذا الحلف (التفاهمات الصينية والروسية مع تركيا وصفقة صواريخ إس 400) ، أو بإغراء دول من شرق ووسط أوروبا بمزيد من المكاسب الاقتصادية والاستثمارية، حال انسحابها من حلف الناتو فيما عرف بدبلوماسية الكمامة .
وسيمثل هذا الوضع تحديا خطيرا للدول العربية، والتى ستجد نفسها مجبرة على الاصطفاف مع هذه القوة أو تلك وفى مواجهة الأخري، وفق وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو، الذى أكد أن بلاده تسعى إلى حشد كل الدول للتصدى لأنشطة الحزب الشيوعى الصينى التى وصفها بالخبيثة . فالصين تمثل بقوتها الاقتصادية وكأكبر قوة ديموجرافية فى العالم، خطرا على كثير من الدول العربية، وفق الإماراتية ليلى الجاسمى ورئيس جهاز الاستخبارات السعودى السابق الأمير تركى الفيصل، بسبب نمط الاستثمار والتجارة الصينية المعتمد على نقل الكثافة السكانية الصينية إلى الخارج وتوطينها فى البلدان التى بها استثمارات ومشروعات صينية، خاصة وأن النظام الصينى الماركسى لن يكون محل جاذبية لكثير من الشعوب العربية والإسلامية، كما أن هناك بلادا أخرى أوروبية تشارك الدول العربية هذا التخوف، فى ضوء ما تفعله الصين فى إفريقيا من بناء مستعمرات بشرية صينية.
ومع تزايد الحرب التجارية بين الدول الغربية والصين ستقوم الأخيرة وفق وزير الخارجية البحرينى عبداللطيف الزياني، بتعويض ذلك فى أسواق المنطقة العربية، ما يغرق هذه الأسواق بالبضائع الصينية ويهدد عملية التنمية فى الدول العربية وصناعاتها.
وانعكس الصراع الإستراتيجى بين أمريكا والصين من ناحية أخرى وفق وزير الدفاع الهندى هاجرت ساجان، فى تطوير الصين لأساطيل عسكرية وقوات بحرية مكتفية ذاتيا SELF-CONTAINED، للتدخل فى الممرات البحرية البارزة خاصة فى المحيط الهندى وخليج عمان وبحر العرب وباب المندب والبحر الأحمر، ما يمثل تحديا لعملياتها للولايات المتحدة وحلفائها كالهند والدول العربية، لأن الصين وفق مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية المنتهية ولايته جون راتكليف، استخدمت تكنولوجيا تعديل الجينات المعروفة باسم (CRISPR) ، فى بناء جنود خارقين وتطوير أسلحة بيولوجية وفيروسية أكثر فتكا، يقتصر تدميرها على عرق بشرى دون غيره، وبما يتعارض مع القيم الأخلاقية وحقوق الإنسان، وهو ما يجعل من الصين خطرا على العالم كله وليس فقط على المنطقة العربية، وفق مايكل زينتو الخبير فى السياسات الدفاعية، لكن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشونينج، رفضت هذه الاتهامات ووصفتها بفيروسات سياسية وأكاذيب، تهدف للإضرار بسمعة الصين، وفى إطار الحرب الجيوسياسية التجارية التى تنفذها واشنطن ضد بكين.
وفى إطار الحرب الباردة الجديدة وتطبيقا لفكرة «اختبار الإجهاد STRESS TEST» يرى السفير الفرنسى السابق ميشال ديكلوس MICHEL DUCLOS ، أن الصراع الإيديولوجى بين الصين وروسيا والدول الغربية، سيخلق مزيدا من المنافسة بين أنظمة الحكم المختلفة، خاصة فى العلاقة بين الدولة والمجتمع، ووفق فولكر بيرثس VOLKER PERTHES مدير المعهد الألمانى للقضايا الدولية والأمنية SWP، فأزمة كورونا ستسهم بسقوط النموذج الرأسمالى النيوليبرالى الذى سقط أخلاقيا عندما ضحى بكبار السن من أجل أن يعيش آخرون، ومن ثم العودة إلى الأنظمة التى تقوم على تقديم الخدمات الاجتماعية، وتتبنّى نماذج اقتصادية تشرك الفئات الأكثر هشاشة داخل مجتمعاتها فى التنمية، وأنه من إيجابيات هذه الأزمة تصاعد أدوار الدولة الوطنية وأدوار الجيوش فى الأنشطة الاقتصادية، وتوفير السلع والخدمات والصناعات الدوائية والأنشطة العلاجية، ما يوفر مزيدا من الفرص بالنسبة للدول العربية، عليها أن تحوزها فى المجالات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية ومجالات التصنيع المدنى والعسكرى .
ورغم أن وباء كورونا حول انتباه الولايات المتحدة من اهتماماتها العالمية إلى سياساتها الداخلية، لكن وفق نائب رئيس الوزراء فى جمهورية العراق فؤاد حسين، ستظل القيادة والسيطرة للولايات المتحدة AMERICAN LEADERSHIP بسبب قوة النموذج الأمريكى وجاذبيته للعالم اقتصاديا وعسكريا وثقافيا وتكنولوجيا ، وستسعى واشنطن وفق وزير الخارجية السعودى الأمير فيصل بن فرحان، لترتيب أوراق المنطقة من خلال العمل على تسوية أزماتها سياسيا، بالتعاون مع شركائها الإقليميين، خاصة الوصول لاتفاق سلام فى أفغانستان واليمن وليبيا وسوريا والصومال وفلسطين، وتسوية الأزمة الخليجية بين قطر والدول الأربع، لمواجهة ما أطلق عليه «التحديات الجسام» بالمنطقة
ويقول وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي، خلال الفترة المقبلة، العمل بجدية لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، مع فرض تنازلات مؤلمة على الجانبين الفلسطينى والإسرائيلي، إضافة لاستكمال ما بدأه ترامب من تطبيع أكبر عدد من الدول العربية والإسلامية مع إسرائيل، لكن فى حال انقسام الدول العربية حول ما يجب فعله فى اليمن والصومال وسوريا وليبيا وفلسطين، فمن المتوقع أن الصراع فى هذه الدول سيتصاعد اعتمادًا على استمرار إيران وتركيا فى تصدير السلاح للميليشيات الموالية لهما، كما أن دولا أخرى عربية وأوروبية، لن تقف مكتوفة الأيدي، ما يجعل مقاربة التسوية السياسية للأزمات الحادة فى المنطقة لا تحقق على الأرجح تقدما كبيرا خلال العام 2021، بسبب هذه الصراعات الجيوسياسية .
أما فى حالة تخلى القوى الكبرى ( الولايات المتحدة والصين وروسيا ) عن الصراع فيما بينها، فى ظل إدارة بايدن، من المتوقع أن تتوافق على تقسيم النفوذ فى العالم، على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى بين روسيا وفرنسا وبريطانيا، وهو ما حاول فعله أوباما من قبل، وستكون المنطقة العربية هدفا لهذا التوافق، وفق وزير الخارجية العُمانى سعيد البوسعيدي، ما قد يترتب عليه خسائر جيو سياسية واقتصادية كبيرة لها، لكن إن توحدت أو تعاونت الدول العربية بعمل وموقف عربى موحد أوعلى الأقل تشكلت كتلة عربية قوية من الدول الفاعلة، ستتمكن المنطقة من التغلب على هذا التحدى وتحوله إلى فرصة لحل أزمات شرق المتوسط وسوريا وليبيا واليمن والصومال وسد النهضة والصراع العربى الإسرائيلى .
وفى كل السيناريوهات وفق وزير الدولة فى وزارة الخارجية الألمانية ميجيل بيرجر، ستستمر كل من تركيا وإيران كتهديد أمنى جيوسياسى خطير للدول العربية، خاصة فى الخليج العربى واليمن والشام وشمال أفريقيا، بسبب محاولاتها التدخل فى شئون هذه الدول ودعم الجماعات الإرهابية بها ماليًا وعسكريا ، لكن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ودول الخليج العربية، لا يمكن أن تسمح لإيران بالحصول على أسلحة نووية وصواريخ بعيدة المدى ومواصلة تمويل الميليشيات الإرهابية، لذا ستستمر فى دعم العراق ولبنان واليمن لمواجهة هذه الميليشيات الإرهابية، كما أن إدارة بايدن رغم موافقتها على إعادة العمل بالاتفاق النووى مع إيران، إلا أنها تشترط أن يتم ذلك من خلال اتفاق جديد يأخذ فى اعتباره التطورات التى حدثت فى البرنامج النووى الإيرانى وبرنامج الصواريخ البالستية، لذا لن تتبع إدارة بايدن سياسة استرضاء طهران، لكن ستلوح لها بالعصا والجزرة معا، لوقف أنشطتها الخبيثة كما وصفها بايدن ، كما ستعمل واشنطن على إيلام تركيا بالعقوبات ومحاصرة طموحاتها الإقليمية فى شرق المتوسط وفى سوريا وليبيا والصومال، لإبطال لعبتها الحالية ما يجعلها تعود أدراجها ثانية للغرب.
وخلال فترة السيولة الدولية، من المتوقع وفق المستشار لشئون الأمن الداخلى فى أفغانستان حمد الله محب، أن زادت التهديدات الجيوسياسية للتنظيمات الإرهابية فى أفغانستان وسوريا وليبيا والصومال واليمن على دول المنطقة، خاصة وأن دولا إقليمية كقطر وتركيا وإيران تمد تلك التنظيمات بالسلاح والأموال، وتستخدمها فى إطار مشاريعها الإقليمية ، وفى هذه الحالة على الدول العربية المستهدفة، أن تستمر فى الحرب على الإرهاب والتطرف فى أبعادها الفكرية والتنموية والأمنية مع تنسيق جهودها .