ما بين الإسلامي خليفة "أرطغرل" ومحمد الفاتح الجديد سابع سلاطين الدولة العثمانية والحفيد السادس لأرطغرل، والقومي "الذئب الرمادي" الذي يبحث عنه الأتراك في أساطيرهم وبين سفوح جبال الأناضول..يحمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قناعات تتوزع ما بين العقائدية والقومية، ليعيد لبلاده حكم الشرق الأوسط الذي ينتظر الخليفة العثماني منذ مائة عام.. فقناعاته العقائدية تحفزه على استعادة "الخلافة العثمانية" التي انتهت قبل نحو مائة عام، عبر الاستيلاء علي بعض المناطق المتاخمة لحدود بلاده، خاصة أنه يرى نفسه الخليفة المؤتمن على الشرعية الدينية والمرجعية السنية في تاريخ تركيا العثماني. كما يعتقد أردوغان أنه صار قاب قوسين أو أدني من تحقيق حلمه العثماني، معتبرا أن المرجعية السنية التي تشكل ما بين 75 -80 % من مسلمي العالم، تعطيه الحق بالتدخل في شئون المسلمين وإدارة شئونهم على نحو ما كانت الخلافة العثمانية. وها هو قد عاد بتركيا للشرق الأوسط أو أعاد المنطقة للإمبراطورية العثمانية الجديدة حسبما يروج لشعبه.
موضوعات مقترحة
أما قناعات أردوغان القومية فتشكل له هاجسًا قويًا، فهو ضد الأكراد برغم أن غالبيتهم من أهل السنة، ولكن العقيدة القومية التركية تنسف هذا الاعتبار، وتحول الأكراد إلى خصم، وبالتالي تتزايد مشكلة الرئيس التركي، فكيف يكون خليفة للمسلمين بينما هو نفسه خصم قوي لجزء منهم يشكل مكونا مهما في بلاده، بخلاف أكراد سوريا وإيران؟
تلك العقيدة القومية التركية الرافضة للوجود الكردي وضرورة إبعاد أكراد سوريا عن مناطقهم، دفعت أنقرة إلى تعظيم دورها في سوريا وإن اتسم بالتدرج، إذ بدأ باستغلال العلاقات الجديدة بين أنقرة ودمشق وقت اندلاع الثورة السورية لتبدأ تركيا بنصيحة إذ دعت الرئيس السوري بشار الأسد إلى تلبية الإصلاحات السياسية التي طالب بها المتظاهرون احتجاجا على نظامه، وأبدت تركيا وقتها مقصدا نبيلا بوقوفها بجانب الشعب السوري بهدف تأمين الاستقرار السياسي المنشود. ثم تصاعد التدخل التركي بعد رفض بشار تطبيق الإصلاحات السياسية لتقترب أنقرة أكثر من جماعة "الإخوان المسلمين" السورية لتبدي استعدادها لمعاونتها في فرضها علي النظام السوري وإشراكها في الحكم هناك عبر أي تسوية سواء مع الأزمة أو بعد انتهائها
.
وفتح هذا الموقف السوري الرافض لمطلب أردوغان بتشكيل الأحزاب الدينية والسماح بمشاركة "الأخوان المسلمين"، المجال أمام تركيا لتصعيد لهجتها ومواقفها لتبدأ سياسة جديدة ممثلة في ممارسة التهديدات والضغوط علي دمشق لتكون أكثر تطرفا، وهنا شاركت أنقرة عدة قوى إقليمية ودولية في عسكرة الثورة السورية لتبدأ تركيا عمليا تشييد مخيمات للاجئين السوريين على حدودها مع سوريا حتى قبل أن ينزح الأهالي عن بيوتهم.. ثم احتضنت معظم قوي المعارضة وجميع القيادات العسكرية والسياسية المنشقة عن النظام السوري لتتحول إلى النقيض لتبدأ الخطاب التحذيري الموجه لسوري تزامنا مع توثيق علاقاتها مع قطر والتنسيق معا لإدخال مجموعات إسلامية متطرفة إلى الأراضي السورية
.
ولم تكتف تركيا بالتحذير وولوجها إلى مرحلة "المواجهة السياسية والعسكرية"، بل انتقلت بكل قوتها على خط الأزمة السورية، لتتحرك في جميع الاتجاهات، منها السعي لإقناع المجتمع الدولي، وخاصة حلفاء النظام السوري (روسيا وإيران) بالضغط على الرئيس بشار الأسد وتحويل القضية إلى مجلس الأمن الدولي، لاستصدار قرار ملزم تحت البند السابع، يقضي برحيل النظام السوري بكامله. وتضمنت هذه المرحلة استثمار تركيا تداعيات الثورة السورية كافة التي تحولت إلى أزمة وحرب أهلية وطائفية ومذهبية، لتفرض أجنداتها السياسية وتوجهاتها الإسلامية على هياكل المعارضة السورية- خصوصا ذات الصبغة الدينية - التي اعتبرت تركيا الملاذ الآمن لممارسة أنشطتها وعملها العسكري انطلاقا من أراضيها، مدعومة بالدعم التركي اللوجيستي والعسكري والمالي
.
وفي إطار أدوارها متعددة المسارات في الأزمة السورية، أحكمت تركيا تمسكها بقرار المعارضة السورية وفرض أجندتها عليها، ثم استحضرت ورقة جديدة، وهي" ورقة اللاجئين" التي جاءتها علي طبق من ذهب، فاستثمرتها بقوة وأخذت تبتز بها الدول الأوروبية إذ سمحت للآلاف من اللاجئين السوريين بالعبور عبر حدودها إلى الدول الأوروبية عام 2015 لتخلق أزمة كبيرة لهذه الدول، ثم استغلت هذه الورقة لاحقا في تكثيف مطالباتها بإنشاء منطقة آمنة على الحدود مع سوريا.. وكان نصيب ألمانيا وحدها ما يقارب مليون لاجئ، مما دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى عقد أكثر من اجتماع لبحث تداعيات هذه الأزمة، لتضطر في النهاية إلى دفع حوالي 3 مليارات دولار للحكومة التركية، مقابل إغلاق حدودها ومنع تدفق اللاجئين السوريين للدول الأوروبية. وكان اللاجئون – الذين تدعي تركيا أن عددهم وصل عام 2016 إلى نحو (3.5 مليون لاجئ) - يتوزعون في بدايات الأزمة علي 13 مخيما تركيا بخلاف أماكن إيواء أخرى أقيمت علي عجل علي طول الشريط الحدودي
.
ووفقا للقوانين الجيوسياسية التي تؤكد أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فقد أغرت تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي ألمح فيها إلى سحب قواته من شمال سوريا، أردوغان بتنفيذ حلمة باقتحام شمال شرق سوريا عبر عملية "نبع السلام" في أوائل أكتوبر الماضي مثلما أغرت السفيرة الأمريكية لدي بغداد إبريل جلاسبي الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بغزو الكويت، في مشهد يجسد خيانة علنية من الرئيس الأمريكي لحلفائه الإستراتيجيين في سوريا وهم الأكراد. وقال ترامب في تغريدة له عقب الغزو التركي لشمال شرق الفرات: "بعد هزيمة خلافة (داعش) بنسبة 100%، قمت بإخراج قواتنا إلى حد كبير من سوريا.. لندع سوريا والأسد يحميان الأكراد ويحاربون تركيا من أجل أرضهم.. قلت للجنرالات لماذا يجب أن نقاتل من أجل سوريا والأسد لحماية أرض عدونا؟ كل من يريد مساعدة سوريا لحماية الأكراد هو أمر جيد بالنسبة لي، سواء كان روسيا أو الصين أو نابليون بونابرت.. آمل أن يفعلوا كل شيء رائع، فنحن على بعد 7 آلاف ميل".. ثم شدد على أن الولايات المتحدة لم تقدم أبدا أي تعهد للأكراد بالبقاء في المنطقة (400 عام) لحمايتهم. وسرعان ما لجأت تركيا إلى سد الفراغ الذي ظهر في شمال سوريا (شرق الفرات) بمجرد انسحاب القوات الأمريكية منها
.
فقد انتظرت تركيا الاتفاق مع الولايات المتحدة بشأن المنطقة الآمنة المقترحة والتي ترغب أنقرة في امتدادها إلى مسافة تراوح ما بين 30 و35 كيلومترا بعمق الأراضي السورية وبطول 460 كيلومترا، بينما عرضت واشنطن خلال زيارة مبعوثها الى سوريا جيمس جيفري الى أنقرة في أواخر يوليو خطة لإقامة المنطقة بأبعاد في حدود 5 كيلومترات. وبالرغم من أن المسألة عسكرية بحتة، إلا أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، رفض بلاده المقترحات الأمريكية، ليجدد تهديد أنقرة بالتحرك عسكريا شرق نهر الفرات: "لقد نفد صبرنا.. فواشنطن تماطل في شرق الفرات بأسلوب المماطلة نفسه الذي اتبعته بشأن اتفاق خريطة الطريق في منبج الموقع مع بلاده في يونيو 2018
".
ولم تكن المنطقة الآمنة التي أقامها أردوغان هي بداية التدخل التركي في الشأن السوري، فقد تعددت مسارات دور أنقرة في سوريا منذ بداية الثورة هناك في مارس 2011 في ظل احتدام التدخل الإقليمي والدولي في الثورة السورية، وارتأت تركيا عدم الاكتفاء بدور المتفرج بل تدخلت بقوة في الأحداث السورية بكل ما آلت إليها الأوضاع هناك وتحولها إلى جملة من الأزمات المتعاقبة والمتلاحقة.. واتسم هذا الدور بكل تفاصيله الدقيقة وبغياب الشفافية والرؤية الواضحة وفقدانه لمصداقيته على مدى سنوات الأزمة السورية، في الوقت الذي استغلت فيه أنقرة الأحداث السورية لتحقيق هدفين أساسيين طالما اتسمت بهما التدخلات التركية، أولهما السيطرة علي مناطق الأكراد السوريين علي الحدود وطردهم بعيدا عنها في إطار سياستها الرامية إلى إجهاض أي توجه لنيل الأكراد حقوقهم المشروعة في سوريا وامتداد هذه المطالب إلى أكراد تركيا
.
وثاني أهداف تركيا من تدخلاتها في سوريا هو تحريف الثورة عن خطها الذي بدأت به بهدف عسكرتها وأسلمتها في آن، وهو ما ورط تركيا في احتلال أراضٍ سورية عبر ثلاث عمليات عسكرية مباشرة بدأت بـ"درع الفرات" خلال الفترة (24 أغسطس 2016- 29 مارس 2017) وتلتها بعملية "غصن الزيتون" في 18 يناير 2018 التي احتلت فيها مدينة عفرين، وأخيرا عملية "نبع السلام" في أوائل أكتوبر الماضي، وقد تمت كل هذه العمليات تحت مزاعم عدة سوقت لها أنقرة لتبرير تدخلاتها واحتلالها بعض المناطق بسوريا
.
وقد استنت تركيا مبدأ جديدا في تدخلها العسكري في الأراضي السورية، فبالتزامن مع كل تصعيد عسكري، تجدد مطالبتها لحلفائها الإقليميين والدوليين بتسهيل مهمتها بإنشاء منطقة عازلة على الشريط الحدودي، زاعمة أن هذه المنطقة ستسهم في إيواء النازحين واللاجئين السوريين، لتعزز بعدها وجودها علي الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية كافة في الأزمة السورية، وكانت قد طالبت قبلها بفرض منطقة حظر جوي علي الشريط الحدودي لإجهاض ثورة الأكراد السوريين في "روج آفا" منتصف يوليو 2012
.
لقد استهدفت تركيا تحقيق أهداف عدة من إنشاء المنطقة الآمنة التي رسمتها داخل حدود سوريا:
أولها: أن تجعل الحدود آمنة لها، وثانيا: اعتبار تلك المنطقة وسيلة للتخلص من اللاجئين السوريين بالقوة وجعلهم حاجزا يحميها من المسلحين الأكراد.. والمعروف أن أردوغان يستغل جيدا ورقة اللاجئين السوريين لابتزاز دول الاتحاد الأوروبي، فهو إما يفتح المجال لهؤلاء للجوء إلى أوروبا، أو يدفع الاتحاد الأوروبي لوقف انتقاداته القاسية للعمليات العسكرية التركية في شمال سوريا ضد الأكراد. ويزعم أردوغان أن بلاده قد أنفقت نحو 40 مليار دولار لإعانة وإعاشة اللاجئين على أراضيها، في حين تلقت 7 مليارات دولار مساعدات مالية من مختلف دول العالم للتخفيف من حدة أزمة اللاجئين. وعندما يشعر الرئيس التركي بأن الاتحاد الأوروبي يتباطأ في تسليم بلاده المساعدات المالية، سرعان ما يهدد بفتح حدود بلاده مع الدول الأوروبية في ابتزاز مستمر لها
.
وثالث الأهداف التركية هو إجراء عملية تهجير كبيرة إذ تنوي أنقرة التخلص من نحو 3.5 مليون لاجئ سوري وتوطينهم في المنطقة الأمنية الجديدة بهدف إجراء تغيير ديموغرافي، ليزداد الأمر سوءا وخطرا علي سكانها الأكراد الأصليين. فالنيات التركية تنذر بصراع عرقي جديد داخل هذه المناطق، في وقت تعاني فيه سوريا استنزافا تاما. ولهذا، فتركيا في حاجة ماسة إلى تقدم جغرافي يسمح لها بتوطين الجزء الأكبر من اللاجئين السوريين الموجودين حاليا فى أراضيها، الأمر الذي يتطلب السيطرة علي مسافات محددة فى العمق السوري تصل إلى عمق 35 كيلومترا، كما يحتاج الأمر إلى إنجاز سريع لما تسميه تركيا بـ "تنظيف ديموغرافى" وهو ما تقول به القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها، علي غرار ما قامت به في عملية "غصن الزيتون" بعفرين عبر طرد مئات الآلاف من المواطنين الأكراد بعيدا من حدود المنطقة الآمنة
.
وتعمل تركيا علي تحقيق أهدافها في "المنطقة الآمنة" بإعادة توطين وتهجير للاجئين السوريين فيها علي غير رغبة هؤلاء الذين كانوا يسكنون في مختلف المدن السورية وليس الشمال فقط ، إذ تقوم بزرع اللاجئين في مناطق الشمال لتغيير التركيبة الديموغرافية لإقامة "حزام عازل" علي الحدود التركية كما وصفه إردوغان الذي توعد بتشتيت الأكراد من المنطقة، وهو ما تقوم به قواته حاليا تحت مسمي "المنطقة الآمنة" لتوطين وتهجير اللاجئين وتغيير تركيبة المنطقة السكانية مما يخلق مشكلة خطيرة لسوريا وللمنطقة. وما يشير إلى عدم نية أنقرة التراجع عن هذا المشروع، ما أعلنه فؤاد أوكطاي، نائب الرئيس التركي، بتأكيده عزم أنقرة على المضي قدما في إنشاء المنطقة الآمنة، دون الاكتراث لما يقال ودون النظر إلى الدعم المقدم لها. وقال:"مسودة الخطة التركية حول المنطقة الآمنة تتضمن مشروع إسكان يقوم على تشييد 140 قرية، تتسع كل منها لنحو 5 آلاف شخص، و10 بلدات كل منها تتسع لنحو 30 ألفاً، وستكون في كل بلدة مستشفيات وملاعب ومساجد ومدارس". وهو نفس ما ذكرته مواقع إخبارية تركية نقلا عن أردوغان وإدارته من الانتهاء من وضع تصور كامل للمنطقة الآمنة مع ميزانية مبدئية بقيمة 150 مليار دولار، ستقوم تركيا بتحصيلها من الدول المانحة، علي أن تتولي الشركات التركية تنفيذ مشروعات الإسكان والمدن الجديدة
.
وبرغم تعدد مسارات وأهداف الدور التركي في الأزمة السورية، إلا أن تدخلاتها العسكرية انقسمت إلى ثلاث مراحل، الأولي "درع الفرات"، والثانية عملية "غصن الزيتون" واحتلال عفرين، والثالثة وهي عملية "نبع السلام" في شمال شرق الفرات
.
الأولى: عملية "درع الفرات: "
تزامنت تلك العملية (24 أغسطس 2016 وحتى 29 مارس 2017)، مع الذكرى الـ(500) لمعركة مرج دابق عام 1516 بقيادة سليم الأول، فلم يكن إطلاقها مصادفة وإنما يرسخ فكرة الأطماع التركية في الأراضي السورية والعراقية، ضمن مشروع (الميثاق المللي – القومي) الذي سبق أن انتقد أردوغان قرار مؤسس تركيا الحديثة مصطفي كمال أتاتورك بإلغاء هذا المشروع. ومكنت "درع الفرات" القوات التركية من السيطرة علي منطقة كبيرة من الشمال السوري واحتلال مدن جرابلس والباب وإعزاز، وانتقلت السيطرة إلى فصائل عسكرية مسلحة سورية الموالية لتركيا، من قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المكونة من وحدات حماية الشعب الكردي التي انحسر وجودها غرب الفرات. وفتحت العملية التي جاءت بضوء أخضر روسي، المجال لتركيا لتضع علي رأس أولوياتها تمزيق المنطقة الكردية وتشتيت الأكراد بعيدا عن حدودها، ناهيك عما حدث بعدها إذ استغلتها تركيا لتفتح ملفات قديمة ووثائق تزعم أحقيتها في السيطرة على 15 قرية في محافظة حلب المتاخمة للحدود، هذا بعد أن زعمت سابقا أن مدينتي منبج وجرابلس عثمانيتان. وسرعان ما اندفعت أنقرة في المنطقة لتتريكها ولتمنح قوى "الإسلام السياسي" السيطرة عليها، كما تم ربط المناطق التي استولت عليها القوات التركية بأنقرة وظيفيا وماليا وتعليميا واعتماد المناهج التركية، فحلت اللغة التركية مكان الفرنسية والانجليزية
.
المرحلة الثانية: عملية "غصن الزيتون" واحتلال عفرين:
إذا كانت "درع الفرات" تزامنت مع الذكرى الـ(500) لمعركة مرج دابق عام 1516 بقيادة سليم الأول، فقد جاءت العملية التالية العسكرية التركية بمشاركة الفصائل السورية الموالية تحت عنوان "غصن الزيتون" في 18 يناير 2018، بعد نحو مائة عام من الخروج العثماني من سوريا عام 1918 بعد هزيمة دولة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولي وكأنه "ثأر تاريخي". ومكنت تلك العملية القوات التركية من السيطرة بعدها بشهرين على مدينة عفرين على الحدود الشمالية الغربية لسوريا التي كانت تسيطر عليها وحدات حماية الشعب "قسد". وتجسد مدينة عفرين البوابة التاريخية لعودة الحلم العثماني الأردوغاني في سوريا، ليفتح احتلالها شهيته لضم مناطق أخري كما حدث في عملية "نبع السلام" التالية، علي اعتبار أن تركيا أصبحت لاعبا إقليميا مهما في ظل قيادة أردوغان. ثم بدأت عمليات "تتريك" المنطقة لطمس هوية سكانها الأكراد وتغيير تركيبتها الديمغرافية وإطلاق أسماء تركية محل الأسماء الكريدة للشوارع والقرى. وتتشابه عملية الاحتلال التركي لعفرين، مع ما تم مع "لواء الإسكندرون" حيث قامت بريطانيا وفرنسا باستقطاعه من سوريا بمتقضى اتفاقية "سايكس – بيكو" ومنحه لتركيا نظير مساعدتهما في الحرب العالمية الثانية حال اندلاعها.. وقد تمكن أردوغان من إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بجدوى سيطرته على المدينة الاستراتيجية، من خلال استغلاله التناقضات الروسية – الأمريكية في سوريا، ليحصل علي الضوء الأخضر الروسي قبل شن العملية. كما استفاد أيضا من الصمت الأمريكي والأوروبي الذي بدوره خدم تركيا، لما اعتبرته أنقرة مثل موافقة أمريكية ضمنية على تقليم أظفار الأكراد ، وفرض بعض شروطها عليهم في شرق الفرات
.
وقد أثبت استيلاء القوات التركية علي عفرين وممارساتها الوحشية وللفصائل التابعة لها، أن تركيا تعمل علي تحقيق مطامعها الاستعمارية في سوريا، عبر سعيها لإلحاق عفرين بأراضيها من خلال مشاريع التغيير الديمغرافي والاستيطان، ومحو الهوية الكردية، واتباعها سياسة "التتريك"..وقد اختارت أنقرة توقيت شن عملية "غصن الزيتون" مستغلة إعلان الأكراد عن النظام الفيدرالي في شمال شرق سوريا، وتحرير قوات سوريا الديمقراطية "قسد" لمساحات شاسعة من الأراضي التي كانت تحت قبضة تنظيم "داعش"، كذريعة لشن العملية
.
وكان نجاح الأكراد في تحرير مناطقهم من "داعش" قد تسبب بقلق تركي كبير، لتندفع أنقرة بعمليتها المذكورة لاحتلال عفرين على غرار ما سبق وفعلته جراء عملية "درع الفرات" في مناطق جرابلس والباب وإعزاز. واستغلت تركيا الفراغ الإقليمي والدولي لتلعب دور رأس حربة متقدمة في سوريا مما مكنها من تنفيذ ما لم تستطع روسيا وأمريكا وبقية الدول الكبرى من القيام به، فكان الدور التركي بديلا للقوي الفاعلة في سوريا، ثم اندفعت تركيا عبر هذه الميزة لترويض المعارضة السورية وتدجينها وضرب البنية التحتية وتدمير المقومات الاقتصادية في المناطق السورية التي استولت عليها وتهريب ونقل آلاف المصانع السورية الى تركيا، وهو ما تم عمليا عبر عمليات النهب المنظم لجميع الموارد الاقتصادية الغنية التي تميزت بها عفرين
.
بهذا، حققت تركيا أهدافا إسترايتجية وتحكمت بأكثر من ورقة علي المسرح السوري، إذ عادت كلاعب إقليمي قوي لتستغل ذلك من أجل تنفيذ أجنداتها، وعلي رأسها ضرب المشروع الديمقراطي الذي كان بدأه الأكراد ومعهم المكونات السياسية في شمال شرق سوريا، وثانيها، تنفيذ مشروعها الـ"العثمانية الجديدة" ذي الصبغة الإسلامية، مستخدمة ورقة الحركات الإسلامية المتشددة، بجانب الاحتفاظ بمنطقة جغرافية حيوية تحقق لها قدرا أكبر من المناورة السياسية والعسكرية لتستخدمها كمنفذ لها في تمددها الإقليمي
.
ومن غير الواضح - حتى وقتنا الراهن - حدود عملية "نبع السلام"، فتركيا تصر علي التوغل نحو 30-35 كيلومترا داخل الحدود السورية والسيطرة على مدن كردية من بينها كوباني والقامشلي، الأمر الذي ينذر بمواجهة عسكرية تركية أخري ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، خاصة أن الرئيس التركي سبق أن كشف إمكان توسيع حدود العملية العسكرية بتوغل أعمق في سوريا ليتجاوز "المنطقة الآمنة" المقترحة أمريكيا حتى تصل قواته إلى مدينتي الرقة ودير الزور بما يسمح بعودة المزيد من اللاجئين إلى سوريا
.
فتركيا هنا لا ترمي فقط إلى توجيه ضربة لأكراد سوريا وإبعادهم عن الحدود وتواصلهم الاستراتيجي مع الأكراد الأتراك، ولكن المخططات التركية ترمي إلى أكثر من ذلك حيث تستهدف تغيير التركيبة الديموغرافية لشمال شرقي سوريا وإضعاف المكون الكردي فيها ما قد يفتح الباب أمام مواجهات واضطرابات عرقية تمتد لعقود. ولهذا، تستعين القوات التركية عندما تتوغل في الأراضي السورية، بفصائل سورية موالية لها من المكونين التركماني والعربي، وهي تستهدف البقاء في المناطق التي سيطرت عليها والإشراف علي عملية حراسة "المنطقة الآمنة" التي سينقل إليها اللاجئون السوريون الموجودون حاليا في تركيا
.
إجمالا.. استغلت تركيا الأزمة السورية وعلاقاتها مع الولايات وروسيا وإيران والاتحاد الأوروبي للقيام بدور اللاعب المؤثر ذي الأهمية الاستراتيجية بالنسبة للمصالح الغربية، والذي يحسب حسابه في المسألة السورية في معادلات الحل النهائي، ومما ساعدها في لعب هذا الدور مسألة الجوار الجغرافي..وقد استخدمت تركيا كل ما ادعته "متطلبات الأمن القومي التركي" كذريعة للجم أي تحرك دولي وإقليمي يقف في طريق أطماعها التاريخية، لتلعب بورقة الأكراد واعتبارهم جماعات إرهابية. ولم تتوان تركيا عن استقبال العناصر الإرهابية من كافة دول العالم وتسهيل دخولهم إلى سوريا ودعمهم بجميع أسباب القوة العسكرية والانتشار الجغرافي فيها
.
وللحديث بقية..