جعل الله تعالى رسوله الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم على خُلُقٍ عظيمٍ، وبعثه بشريعة حنيفية ترشد الناس أجمعين إلى التحلى بـمكارم الأخلاق؛ فالخلق العظيم متمكن فى شخصيته الشريفة، وأيضًا فى رسالته ودعوته السمحة.
ومن جملة هذا الخلق العظيم: خُلُق التواضع الذى هو ضد الْكِبْرِ ومظاهره كالتباهى والتفاخر والإشعار بالتمايز على الغير بالقول أو الفعل، فحقيقته تظهر فى ترك الترفع على الآخرين، والتحلى بالرفق والمسالمة، والتسامح واللين وحسن العِشْرة، والمعاملة للجميع دون تمييز؛ وبهذا السلوك الخلقى أمر الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم فى قولِه: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 215].
ولا شك أن النبى صلى الله عليه وسلم يمثِّل النسق الأعلى فى التحلى بخلق «التواضع» - رغم مكانته السامية التى لا يدانيها أحد من العالمين - فتصرفاته السنية وأقواله الحكيمة وأحواله المنيفة نجد فيها الاهتمام الأكبر باحترام كرامة الإنسان وجبر خواطر الناس ومراعاة مشاعرهم، مع إنزال كل واحد منزلته؛ بإكرام الكبير والرحمة بالصغير، والشفقة على الحيوان، والرحمة بالأكوان، لقد تكاثرت الأدلة التى تحث على التواضع وتبين فضل التحلى به وميزة أهله.
ومن ذلك: ثناء الله تعالى على المتصفين بالتواضع وشرفهم بأن جعل عنوانهم «عباد الرحمن»؛ حيث قال تعالي: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63]، كما بيَّن صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أن يحتقر إنسان غيره ولا يستصغره؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».
وقال صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ.. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
والتواضع هو خُلُقٌ حسن من أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فهو القدوة الحسنة، حيث كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعًا، من غير مذلة ولا طلب لدنيا أو لما فى أيدى الناس؛ إنما هو انطلاق من عبوديته المحضة لله تعالى ومعرفة حقيقة النفس ما لها وما عليها؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم نبيًّا عبدًا لله تعالى بحق، وكان يقول: «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ».
إن تواضع النبى صلى الله عليه وسلم صورة مرتسمة فى النفوس بما ورد من أدلة قولية وعملية متكاثرة، تؤكد بُعْده صلى الله عليه وسلم عن كل مظاهر الاستعلاء والكبر؛ فقد كان متسمًا بالتواضع والسكينة فى حياته ولباسه وحركته وسكونه مع تقلل فى أمور الدنيا وزهد فيها، وكان يقوم بخدمة نفسه ويشارك أهله فى خدمة وعمل البيت، ويقضى حاجات السائلين؛ سواء كان السؤال علمًا أو عطاءً، ويزور الأرامل واليتامى والمساكين والمرضى ويجالسهم ويسأل عنهم ويقوم باحتياجاتهم، ويسلم على كل من يقابله حتى الأطفال فى الطرقات، ويلبى الدعوة ولو كانت بسيطة، ويقبل الهدية ولو كانت يسيرة، ويرحم الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ويُجلس الخادم معه على الطعام ويهتم به، ويقبل الأعذار وإن كانت كذبًا ولا يفتش فيها، بل ويزيد فى إظهار التواضع فى مواطن العزة والنصر على الأعداء!
هذه المعانى السامية ترسم صورة حسية لبعض جوانب تواضعه صلى الله عليه وسلم، والتى تؤكد أهمية وفضيلة تدريب المسلم نفسه على التحلى بهذا الخلق العظيم مع ترقية النفس بممارسة سلوكيات مكارم الأخلاق، بصورة عملية مرة بعد مرة، ويعمل على حماية المجتمعات المعاصرة من الانحرافات التى يجلبها التباهى والتكبر من انتشار الشحناء والغطرسة واحتقار الآخرين والاستخفاف بحقوقهم؛ فالمتواضع قريب إلى الله تعالي.. قريب المنزلة والمكانة فى قلوب الناس، وفى ذلك يقول أعظم الناس تواضعًا - كما ورد فى الصحيح -: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ».
فالانكسار للخلق، فيه التمكين من الرب، ونقاء السريرة والقلب.
* نقلًا عن صحيفة الأهرام