مــع الدنيـــا

تحدث العلماء والأدباء والحكماء والشعراء عن الدنيا حديث عارف بها، خبير بطبيعتها، فقال بعضهم: «من طلب الراحة فى الدنيا ــ أى الراحة التامة الكاملة الدائمة ــ طلب ما لم يخلق، ومات ولم يرزق»؛ لأن الله (عز وجل) يقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى كَبَدٍ» (البلد: 4).

ويقول أبو البقاء الرندي:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقــــــصانُ
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هى الأيامُ كما شــاهدتها دُولٌ
مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمــانُ.

ويقول البارودي:
إذا أحسَنتَ يومًا أساءت ضُحى غـدٍ
فَإِحْسَانُهَا سيْفٌ عَلَى النَّاسِ جَائِرُ
تـــــربُّ الفتى حتَّى إذا تــــــمَّ أمرهُ
دَهَتْــهُ كَــما رَبَّ الْبَهِيمَــــة َ جَازِر.ُ

ويقول خامس الخلفاء الراشدين عمر بن العزيز (رضى الله عنه) فى إحدى خطبه: «أيها الناس، إنكم لم تُخْلَقوا عبثًا، ولم تخلقوا سدًى، وإن لكم معادًا يحكم الله بينكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التى وسعت كل شيء، وحُرم جنة عرضها السماوات والأرض، واعلموا أن الأمان غدًا لمن خاف اليوم، وباع قليلاً بكثير، وفانيًا بباق، حتى يرد على خير الوارثين، ثم إنكم فى كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله، قد قضى نحبه، وبلغ أجله، ثم تغيبونه فى صدع- أى شق- من الأرض، ثم تدَعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب، غنيًا عما ترك، فقيرًا إلى ما قدّم».
ويقول الإمام الحسن البصرى (رحمه الله): «يا ابن آدم، بِع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا، يا ابن آدم، إذا رأيت الناس فى الخير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم فى الشر فلا تغبطهم عليه، الثواء هنا قليل، والبقاء هناك طويل، أمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمتكم» هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحاليها، وبقيت الأعمال قلائد فى أعناق بنى آدم، فيا لها من موعظة لو وافقت من القلوب حياة، أما إنه والله لا أمة بعد أمتكم، ولا نبى بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم، أنتم تسوقون الناس، والساعة تسوقكم، وإنما ينتظر بأولكم أن يلحقه آخركم».

ويقول عبد الحميد الكاتب: إن الله تعالى جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور, وجعل فيها أقسامًا مختلفة بين أهلها، فمن دَرَّتْ له بحلاوتها وساعده الحظ فيها، سكن إليها، ورضى بها، وأقام عليها، ومن قرصته بأظفارها، وعضته بأنيابها، قلاها نافرًا عنها، وذمها ساخطًا عليها، وشكاها مستزيدًا لها.

ويقول رب العزة (عز وجل) فى محكم التنزيل: »إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون» (يونس: 24)، ويقول سبحانه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ» (فاطر: 5).

فعش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزىٌّ به، ومن لم يتعظ بتخطف الموت من حوله فلا واعظ له.

نقلا عن صحيفة الأهرام