Close ad

الدكتور رفعت علي: الكلام نوعان.. الأول يطرق القلب بلا استئذان والآخر لا يتجاوز الآذان

17-5-2020 | 02:55
الدكتور رفعت علي الكلام نوعان الأول يطرق القلب بلا استئذان والآخر لا يتجاوز الآذانالدكتور رفعت علي محمد السيد وكيل كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر فرع أسيوط
حوار- حسـني كمـال:

الكلمة إذا خرجت من قلب نابض، وبرزت من عقل نابه، كان مددها أبقى، وأثرها أنفذ، فثمة كلام يطرق القلب بلا استئذان، وآخر لا يتجاوز الآذان..

أكد الدكتور رفعت علي محمد السيد، وكيل كلية اللغة العربية، بجامعة الأزهر، فرع أسيوط في حوار خاص لـ(بوابة الأهرام)، أن الكلمة تحيي إنسانًا وتقتل إنسانًا.. وإلى نص الحوار:

إن الكلمة من قائلها بمعناها في نفسه، لا بمعناها في نفسها، فقد تخرج الكلمة من شخصين، ويتفاوت أثرهما تفاوتاً بائناً، لتفاوت الإحساس بالمعنى من كليهما، ومن ثم كان منه ما هو كاللؤلؤ يحفظ بمجرد سماعه، ومنه ما هو كالحصا لا يلتفت لسماعه.. كما يقول شيخ المعرة، إن الكلام كالكائن الحي يموت ويحيا عند درجة حرارة معينة، فثمة كلام يخرج من فم قائله مواتاً بلا روح ولا حياة، لا يترك أثراً، ولا يبلغ مراداً. وآخر يبرز نابضاً بالحياة يبقى أبد الدهر،تتدارسه الأجيال، وتتباين في معناه الأفهام.

وقد فطن الشاعر العربي لمثل هذا عندما قال:

يموت ردئ الشعر من قبل أهله  وجيّده يبقى وإن مات صاحبه

بل إن أبا تمام ذهب لأبعد من هذا، فذكر أن من الكلام ما يزداد ثراء مع الأيام، وكأنه يعاند الدهر، ويخالف السنن الكونية:

ويزيدها مر الليالي جد  وتقادم الأيام حسن شباب

فأشعاره تزداد جدة وبكارة بمرور الأيام، وهي لا تبلى كغيرها، بل تزداد عطاء وتدفقاً كلما أعدت فيها النظر، وقلبت فيها الفكر.

ومن هنا كان لكلام العارفين أثر لا تجده في كلام سواهم، ذاك أن أنوارهم تسبق أقوالهم، وكلماتهم تحمل أنفاسهم، وسطورهم تنقل أسرارهم، فحيث صار التنوير وصل التعبير، وكل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز.. كما يقرر صاحب الحكم. لقد كان لكلام العارفين ذاك الأثر، لأن قلوبهم متصلة بالله، ففيها فيض من مدد الله وسره، وهو كلام حديث قريب العهد بربه، كما وصف العز بن عبد السلام كلام أحد العارفين.

كيف تتجدد الكلمة كلما أعيد فيها النظر؟ تحيا من جديد فتسبب ألما أو فرحا

دونك كتاب "الحكم" لابن عطاء الله السكندري، فهو مثال لثراء الكلمة وتجددها الدائم، كلما أعيد فيها النظر، وعملت فيها الفهوم. لقد أضحت حكمه زاداً لمن يأخذون أنفسهم بضروب التربية، وصنوف المجاهدة، إذ فيها وصف دقيق لمعالم التربية والسلوك من رجل خبير بها، ماهر فيها، عانى وكابد، وعرف وغرف، وذاق فوصف الطريق عن تجربة، ودل القوم على بينة. تجاوزت الحكم حدود المكان والزمان، وانطوت ضمن الأدب الإنساني الخالد، الذي يصلح أن يقال في كل زمان وفي كل مكان.

وإنك لتعجب للدروس واللقاءات التي تعقد حول هذه الحكم الوضيئة، وشرح أسرارها، وتلمس فيوضاتها. فما من بلد إسلامي، إلا وتجد فيها من شرح الحكم زاداً ونصيباً في مساجدها، ومعاهدها، وأروقتها.

هل تغير الكلمة مسار حياة إنسان؟

إنك لتدهش من كم الشروح العلمية التي وضعت على الحكم منذ ظهرت إلى يوم الناس هذا، بل تكفي الإشارة أن أحد علمائنا شرحها سبعة وثلاثين شرحاً، كلما انتهى منها أعاد شرحها من جديد، وكلما نزل بلداً شرحها شرحاً مغايراً، وما ذاك إلا لما يجد فيها من تجدد عطائها، وتوفر شبابها، ما يغري بالمزيد. وقد قرأت لأحد إخواننا أنه دخل مكتب أحد القساوسة البريطانيين في كنيسة فرأى لوحة خلف مكتبة كتب عليها بالعربية والإنجليزية هذه الحكمة: ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع، صار المنع عين العطاء.

وقد قال له القسيس: هذه من أجمل الكلمات التي قرأتها في حياتي كلها، ورحم الله العارف بالله الشيخ ابن عطاء الله السكندري.
غيرت مساري محمد الغزالي ومحمد عبده

وقد أعجب بها الشيخ محمد الغزالي وشرح بعضها في (الجانب العاطفي من الإسلام) وأقر بأن كلماتها كانت سبباً في تغيير مسار حياته. ومن قبله فتن بها العالم المجدد الشيخ محمد عبده، وقال عنها: كادت أن تكون قرآناً، ولو صحت الصلاة بغير القرآن لصحت بالحكم ". ولعل هذا يفسر لنا ولع العلماء وإدمانهم قراءة كتب بعينها، بل واتخاذهم منها ورداً.

كان أحد نحاة الأندلس يختم كتاب سيبويه في كل خمسة عشر يوماً، كأنما يتلوه تلاوة القرآن، وعن بعض النحاة: أنه قرأ كتاب سيبويه أكثر من خمسمائة مرة في كل مرة يفيد شيئاً لم يفده من قبل.

كيف يكون للكلمة أثر في تغيير مسار إنسان؟

طبعا لها أثرا والأمثلة كما أشرنا لها، فهل كانت هذه القراءات الفاحصة من أجل تحصيل ما فيها من علم ومعرفة، أم كان لثرائها وعمقها، ولأنها تمد قارئها بمدد وبصيرة، وتعطيه مع العلم عقلاً، وتغرس فيه من المنهج والروح، مالا يجده في غيرها.

وإذا كان لحياة الكلمة ونبضها هذا الأثر الخالد، فإن ذاك مرهون باستعداد المتلقى، إذ على قدر الاستعداد يكون الإمداد، بل إن فيض الله على المعلم بقدر يقظة طلابه، وكان أحد رحالات الصوفية يقول:

(إذا وفقك الله إلى الإحسان في درس أو خطبة، فلا تحسبن ذلك يرجع إلى براعة أو علم عندك، وإنما هو رزق السامعين ساقه الله على لسانك).

كلمات البحث
الأكثر قراءة