جاء في الجزء الأول أن موسى عليه السلام بعد أن تلقى الألواح أخبره الله بفتنة قومه، وأن السامري قد أضلَهم؛ فعبدوا العجل بعد الإيمان بالله الواحد الأحد.
غضِبَ موسى عليه السلام، وعندما رآهم يلتفون حول العجل ويرقصون اشتد غضبه، وألقى الألواح فانكسرت، ووجه اللوم إلى أخِيه هارون وعنفه بشدة.
قال هارون: "قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي" نزلت هذه الكلمات على موسى بردًا وسلامًا ولما هدأت نفسه من شدة الغضب.
انطلق موسى عليه السلام تجاه رأس الأفعى" السامري" وقال: "قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ" (طه 95), أي ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال:" قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي" أرد بذلك أنه رأى جبريل عليه السلام علي فرس الحياة, فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثر الرسول, وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيًا, ومعنى "نبذتها" فطرحتها في الحُلي المذابة المسبوكة على صورة عجل, "وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي"، فلما سمع موسى عليه السلام منه ذلك قال "فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ"؛ أي اذهب من بيننا، واخرج عنا، فإن لك في الحياة أي ما دمت حيًا "أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ".
و معني لامسا س: أي لا يمسك أحد ولا تمس أحدًا, وكان إذا مسه
أحد حمّ ويتألم؛ فلذلك كان يصيح إذا رأى أحدًا: لا مساس, هذا في الدنيا, أما الآخرة فله عذاب في يوم القيامة "وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ" والله لا يخلف الميعاد.
قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت في يوم القيامة، والله لا يخلف الميعاد، ثم قال له: "وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا" (طه 97), والمعنى: انظر إلى إلهك الذي دمت وأقمت على عبادته لنحرقنه أي بالنار, ثم لنذريه في البحر, وهكذا خسر الماكر الكذاب الدنيا والآخرة, وذلك هو الخسران المبين قال تعالي: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ" ( هود 103).
الندم علي الذنب:
قال تعالي: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" (الأعراف152)، وهكذا وقع, وقد قال بعض السلف: "وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيامة, ثم أخبر الله تعالى عن حلمه ورحمته بخلقه, وإحسانه علي عبيده في قبوله توبة من تاب إليه بتوبته عليه فقال: "وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" (153 طه) لكن لم يقبل توبة عابدي العجل إلا بالقتل, كما قال تعالي: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (البقرة 54) فيقال إنهم أصبحوا يومًا وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف, وألقى الله عليهم ضبابًا حتى لا يعرف القريب قريبه، ولا النسيب نسيبه, ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصد وهم فيقال إنهم قتلوا في صبيحة هذا اليوم واحدًا وسبعين ألفًا.
ثم قال تعالي: "وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ"
الميقات:
قال تعالي: "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ", ذكر ابن عباس وغيره: أن هؤلاء السبعين, كانوا علماء بني إسرائيل ومعهم موسى وهارون ويوشع, ذهبوا مع موسى عليه السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة العجل.
المصدر: من قصص القرآن وتفسير ابن كثير