تقع حوادث التحرش كل يوم, سواء بالفعل أو القول, بعضها يصل إلى أقسام الشرطة وأقلها يصل إلى قاعات المحاكم، فإجراءات إثبات الواقعة فى غاية التعقيد وتحتاج إلى حظ كبير لتجد الضحية شهودا (ولاد حلال جدعان) وهو ما لا يحدث فى الغالبية العظمى من الحالات، فرحلة البحث عن شاهد يذهب بملء إرادته ليشهد على ما رآه بعينه ليست هينة بل ربما تكون مستحيلة.
وكما تقول انتصار السعيد رئيس مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، العثور على شاهد فى قضية تحرش أصعب من العثور على إبرة فى كوم قش، فالناس يشهدون على الواقعة وأقلهم من يوافقون على الإدلاء بشهادتهم والذهاب معها إلى قسم الشرطة حتى وان كانوا يعرفون الفتاة عن قرب، وفى إحدى القضايا التى تصدينا لها من خلال المؤسسة تعرضت احدى الفتيات للتحرش والانتهاك الجسدى فى المواصلات العامة وتصادف وجود أحد زملائها فى العمل لكنه رفض الشهادة لأنه لا يريد أن يدخل نفسه فى شأن لايعنيه، ووجدنا صعوبة كبيرة فى إقناعه ليشهد فقط بما رآه وبأهمية الدور الذى يقوم به فى إثبات حق الفتاة، وتشرح انتصار السعيد وجه الصعوبة كى تثبت الفتاة تعرضها للتحرش تحتاج إلى قوة اعصاب فولاذية أولا كى تتعامل مع الموقف ثم تتحفظ على المتحرش او تجد من يساعدها فى ذلك، وهو امر فى غاية الصعوبة ثم تتوجه لقسم الشرطة بصحبة الشهود وتحرر المحضر وتحكى الواقعة ويؤيدها الشهود أو يخدمها الحظ فى أن يكون المكان الذى وقعت به الحادثة مراقبا بكاميرات تكون أكثر خطأ فتجد من قام بتصوير الواقعة بالفيديو ويمكنها الحصول عليه وفى كل الاحوال، فالعثور على شاهد متطوع للشهادة مسألة فى غاية الصعوبة وهو ما يؤكد أن مواجهة التحرش لن تكون بالقانون والتشريعات فقط ولكن بمساندة مجتمعية ووعى بخطورة الامر.
عدم وجود شهود وعدم استعداد الحاضرين للشهادة بالاضافة الى صعوبات أخرى ــ كما توضح جانيت عبد العليم الناشطة فى ملف التحرش ــ يمكن رصده بسهولة من خلال المقارنة بين ما يتم تحريره من محاضر (على قلتها) فى اقسام الشرطة وبين ما يصل الى النيابة ثم المحكمة، فاغلب محاضر البوليس تحفظ لعدم وجود أدلة وكذلك تحقيقات النيابة ونسبة القضايا التى تصل إلى المحاكم لا تتجاوز 5% منها بسبب عدم وجود شهود أو لصعوبة التوصل للجانى أو لعدم اعتداد النيابة بالأدلة، فالشك دائما يفسر فى مصلحة المتهم وقد لا يعترف القانون بالفيديوهات التى تم تصويرها فى اثناء الواقعة، ولكن أخيرا أصبح يتم الأخذ بها ويحق للنيابة ان تحرك القضية اذا ما انتشر مقطع على السوشيال ميديا بصفتها ممثلة للشعب حتى وان لم تقدم صاحبة الواقعة البلاغ بنفسها، وفى تلك الحالة يتم التوصل للجانى . بعض الفتيات ممن استطعن إثبات الجريمة وإدانة المتحرش فى المحكمة استطعن ذلك بفضل تسجيل رقم التوتوك أو السيارة مع وجود شهود مستعدين للشهادة متحدين نظرات الإدانة وتمسكن بحقهن وناضلن حتى النهاية ولكنها حالات فردية وقليلة جدا والسوشيال ميديا أصبحت اليوم تلعب دورا فى فضح المتحرشين وتوجد بعض التطبيقات الخاصة من اجل، ذلك لكن للاسف تواجه الفتاة التى تلجأ لهذه الطريقة للإدانة أيضا وتتهم بانها تهتك الستر وتفضح نفسها ولولا ان «وشها مكشوف» وتستحق ما حدث لها لما فعلت ذلك .
مؤخرا أطلقت دينا عيسى وزوجها عمرو خيرى، مبرمجا كمبيوتر ـ تطبيقا جديدا أطلقا عليه اسم dare متاحا مجانا للسيدات على متاجر الهواتف الذكية، وبالرغم من انه لا يوجد ما يؤكد ان هذه الوسيلة تستطيع أن تحدث فرقا فى التصدى لظاهرة التحرش لكن على الاقل يمكنها أن تصبح منصة لتقديم المساعدة للفتيات والتحذير من أشخاص بعينهم، وكما تقول دينا فان الابلاغ عن التحرش فى كثير من الاحيان يكون غير ممكن ولذلك ففضح المتحرش وسيلة بديلة قد تسهم فى ردع من يفكر فى ارتكابها وكل من تسول له نفسه فى القيام بالامر فى المستقبل، والتطبيق يحتفظ بسرية البيانات ويحقق الامان الكامل لمن تستخدمه كما انه لن يتم بث أى رسالة أو اتهام بدون فيديو مثبت، وفى وقتنا الحالى علمتنا التجارب أن الاستجابة تكون أكبر من قبل الجهات الرسمية وغير الرسمية والشركات والمنشآت الخاصة لصوت مستخدمى مواقع التواصل وحل مشكلات من هذا النوع، ولذلك تعتبر صاحبة التطبيق أن فضح المتحرش هو اكبر عقاب لصاحبه وهو نظام معمول به فى العديد من دول العالم وأثبت فعالية كبيرة.
الدكتورة هالة منصور أستاذ علم الاجتماع ترى أن ثقافة عدم الشهادة و«احنا مش وش اقسام» لا تقتصر على التحرش بل هى ثقافة عامة فالناس سلبيون جدا فى ذلك وهناك نوع من اللامبالاة ولا يميلون للمساعدة، ويتصورون أن ذلك سيورطهم فى مشاكل هم فى غنى عنها وهناك دائما نوع من التعاطف مع صغار المجرمين على طريقة «المسامح كريم ويا عم هى جات عليه» واذا كنت ممن يتمسكون بحقوقهم للنهاية فستجد من ينصحك بالعفو عند المقدرة والستر ويستخدمون الدين استخدامات خاطئة ليقنعوك بالتنازل عن حقك والموضوع (مش مستاهل) وفى حالات التحرش من الصعب ان يبادر الناس بالشهادة فمنهم من سيرى الفتاة مذنبة فى المقام الاول، ومن يتعاطف معها سيطلب منها تركه لحاله فهى غلطة عابرة «ومحصلش حاجة ومتكبريش الموضوع» وحتى من سيتصدى للمتحرش على ارض الواقع سيتردد فى مسألة الشهادة مع الفتاة وهى ثقافة تراها أستاذ علم الاجتماع خطرا كبيرا فالقانون لا يمكن انفاذه وتنفيذه إلا فى بيئة مجتمعية مساندة واذا لم يساند الناس الجهات التنفيذية فى تطبيقه فلن يكون الأثر كبيرا، ولذلك نحن فى معركة مع الوعى والتوعية بأهمية الدور الإيجابى للمواطن والمسئولية المجتمعية له ودوره الفاعل فى ذلك، وللاسف فقد أصبحت السوشيال ميديا بكل مساوئها هى البديل للمشاركة الايجابية، لكن فى احيان كثيرة يتم استخدامها بطريقة سيئة فى التشهير واختلط الحابل بالنابل، وحتى من يلجأن من الفتيات للسوشيال ميديا لفضح المتحرشين تتم مهاجمتهن والتشكيك فى اقوالهن واخلاقهن ايضا فى بعض الاحيان..
نقلا عن صحيفة الأهرام