Close ad

رمضان زمان.. "المسحراتي" طبلة وكلام وأنغام

12-6-2017 | 12:18
رمضان زمان المسحراتي طبلة وكلام وأنغامصورة تعبيرية
أحمد الماحي

ارتبطت هذه المهنة بالشهر الكريم منذ عهد النبي –صلى الله عليه وسلم، فكان بلال بن رباح رضي الله عنه أول "مسحراتي" في التاريخ الإسلامي، حيث كان يجوب الشوارع والطرقات لإيقاظ الناس للسحور بصوته العذب طوال الليل، وكان النبي يقول "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"، وكان ابن أم مكتوم هو الذي يتولى أذان الفجر، ومنذ ذلك التاريخ أصبح المسحراتي مهنة رمضانية خالصة.

وفي العصر العباسي كان المسحراتي ينشد شعرًا شعبيًا يسمى "القوما" طوال ليالي رمضان، وربما كان ذلك عائدًا لازدهار فن الشعر في ذلك العصر. أما بداية ظهور الإيقاع أو الطبلة في يد المسحراتي فكانت في مصر، حيث كان المسحراتي يجوب شوارع القاهرة وأزقتها وهو يحمل طبلة صغيرة ويدق عليها بقطعة من الجلد أو الخشب، وغالبًا ما كان يصاحبه طفل صغير أو طفلة ممسكة بمصباح لتضيء له الطريق وهو يردد نداءاته المميزة "اصحى يا نايم وحد الدايم" أو ينطق بالشهادتين بصوت أقرب الى التنغيم منه إلى الحديث العادي ثم يقول "أسعد الله لياليك يا فلان".

وفي العصر الفاطمي بدأت مهنة المسحراتي أيام الحاكم بأمر الله، الذي أصدر أمرًا بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح، وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور.

أما في عصر المماليك فقد ظهر "ابن نقطة"، شيخ طائفة المسحراتية والمسحراتي الخاص بالسلطان الناصر محمد، وهو مخترع فن "القوما"، وهى من أشكال التسابيح، ثم انتشرت بعد ذلك مهنة المسحراتي بالطبلة التي كان يُدق عليها دقات منتظمة بدلًا من استخدام العصا.

هذه الطبلة كانت تسمى "بازة" وهي صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة.

ولم يكن المسحراتي خلال الشهر الكريم، يتقاضى أجرًا، وكان ينتظر حتى أول أيام العيد فيمر بالمنازل منزلًا منزلًا ومعه طبلته المعهودة، فيوالي الضرب على طبلته، فيهب له الناس المال والهدايا والحلويات ويبادلونه عبارات التهنئة بالعيد السعيد، ويُذكر أن أول من نادى بالتسحير، هو عنبسة بن إسحاق سنة 228 هـجرية وكان واليًا على مصر، وكان يذهب سائرًا على قدميه من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص وينادي الناس بالسحور.

وإذا مررنا بمصر الحديثة لا تخفي علينا كلمات الموسيقار الراحل عمار الشريعي في برنامجه "المسحراتي"، الذي كان يُقدمه في التليفزيون المصري، وكانت من أبرز المقطوعات التي ارتبطت بمهنة المسحراتي "مسحراتي مصر البهية، اصحى وصبّح رب البرية، مشيت أرتّل وأنشد وأجوّد، وصوتي يجري بين النواصي.. اصحى يا نايم".

وإن تكلمنا عن شخصية "المسحراتي" بشكل أوسع من الصعب أن ننسى الشيخ "سيد مكاوي" الذي أبدع في تقديم المسحراتي مع الشاعر فؤاد حداد الذي صاغها شعرًا. وظل يقدم المسحراتي بالأسلوب نفسه حتى وفاته، وهو أسلوب على بساطته الشديدة يعد بصمة فنية مهمة في الكلمات.

كما كان لسيد مكاوي الفضل في وضع أساس لحني خاص لتقديم المسحراتي: "اصحى يا نايم وحد الدايم وقول نويت بكره..
إن حييت الشهر صايم والفجر قايم..
اصحَى يا نايم وحد الرزاق رمضان كريم" .

"الضاحك الباكي" صلاح جاهين لم يكن بمنأى هو الآخر عن الاحتفاء بهذه الطقوس الرمضانية. حين طلبت الإذاعة من جاهين أن يكتب "المسحراتي" رشح فؤاد حداد وقال إنه أشعر منه وأكثر موهبة ويمتاز بالتدفق، كما قال عنه في إحدى المرات إن لديه زخمًا وفحولة شعرية ويشبه الملحميين من الشعراء، ورُغم هذا فقد أمتعنا بإحدى قصائده الجميلة عن المسحراتي، والتي لاقت الكثير من الرواج .." راديو القرون الوسطي
ماركة طم طم طم
وأسطى مسحراتي
طبلة وكلام ونغم
ألا يا فتي فاعلم
رمضان ثبت فاسهر
الأزهر يا صاح في
واشرب من المتجر
مشروبه الأخضر
واجلس بباب الخان
الخلان واضحك مع
خليها منذ الآن
عادة بتتكرر".

ولأن لا رمضان دون فانوس، كذلك فإنه لا طعم لرمضان دون المسحراتي. ذلك الرجل الذي يجوب مُختلف أرجاء المحروسة سائرًا على قدميه لتنبيه المسلمين بوقت السحور، ورغم الحياة العصرية الحديثة من وسائل إعلام وسهر حتى الصباح فإن المسحراتي لا يزال يمر في شوارع وحواري وأزقة القاهرة، يجود عليه المحسنون في نهاية الشهر الفضيل بما تجود به أنفسهم .

وإذا انتقلنا إلي كتب التاريخ نجد روايات عدة عن المسحراتي، والذي يُرجح البعض أنه بدأ يعرف طريقه إلى شوارع مصر في رمضان من عام 238 هجرية، وأن أول من صاح به هو والي مصر أيامها عتبة بن اسحق. وقد استهوت هذه الشخصية أحد المستشرقين وهو المستشرق الإنجليزي إدوارد لين الذي زار مصر مرتين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، وشغف شغفًا كبيرًا بعادات المصريين وتقاليدهم ودون ملاحظاته في كتابه المعروف باسم "المصريون المحدثون.. شمائلهم وعاداتهم".

يقول فيه عن المسحراتي: "يبدأ المسحراتي جولاته عادة بعد منتصف الليل مُمسكًا بشماله بطبلة صغيرة وبيمينه بعصا صغيرة أو قطعة جلد غليظ، وبصحبته غلام صغير يحمل مصباحًا أو قنديلًا يضيء له الطريق، ويأخذ المسحراتي في الضرب على الطبلة ثلاثًا ثم ينشد أناشيد ينادي فيها صاحب البيت وأفراد أسرته فردًا فردًا ما عدا النساء، ويردد أيضًا أثناء تجواله على إيقاع الطبلة كثيرًا من القصص والمعجزات والبطولات الإسلامية عبر التاريخ" .
واستطاعت التقنيات الحديثة بما تحمله في طياتها من "وسائل إعلام وغيرها من الوسائل التكنولوجية" أن تجعل من "المسحراتي " من عادة رمضانية تتوارثها الأجيال ويتعاقب عليها المريدون -ممن يجدون فيها رونقًا روحانيًا كبيرًا وشغفًا لا مثيل له- إلى مُجرد فن ومقطوعات تُذاع سواء على الراديو أو في التليفزيون، وأصبحت مثل الكثير من مظاهر التراث التي آن لها أن تندثر.

ولما انتقل المسحراتي للتليفزيون أصبح هو مسك الختام للإرسال التليفزيوني في رمضان عندما كان الإرسال ينتهي في منتصف الليل، أما الآن، ومع امتداد ساعات الإرسال طوال الـ24 ساعة، وعادة المصريين وحبهم للسهر في ليالي رمضان، اختفى الدور الحقيقي لمسحراتي الشارع، ولكنه رُغم ذلك سيظل مظهرًا رمضانيًا وتقليدًا لا غنى عنه للمصريين في عصر التليفزيون والفضائيات.

كلمات البحث
اقرأ ايضا: