Close ad

موائد الدراويش فى رمضان.. تكية عم رضا بحى الحسين "عدس وملوخية"

23-5-2018 | 15:07
موائد الدراويش فى رمضان تكية عم رضا بحى الحسين عدس وملوخيةموائد الدراويش في رمضان
ميادة عبد المنعم

"صلى على رسول الله..عدس أصفر شفا ودوا من إيد عمك رضا"- عبارة يكررها رجل شارف على السبعين، بين دقائق وأخرى، يدعو بها الصائمون للإفطار على مائدة متواضعة مكونة من قدر كبيرة وأطباق صغيرة وحصير صنع خصيصا ليجتمع عليه الدروايش وأصحاب الحاجات والزهاد، في مشهد صوفي يجبرك على المتابعة عن كثب ما يفعله العم "رضا" ذلك الرجل الدرويش الزاهد فيما عند البشر، والذي ورث تركة غير تقليدية وحمل على عاتقه وصية ورؤيا للإمام الحسين حفيد رسول الله.

موضوعات مقترحة

بجوار مسجد الحسين يجلس الرجل الذي تجاوز الستين بقليل، بثياب بسيطة مهترئة ولحية بيضاء زينت ووجهه المضئ الذي أعلن تحديه لأشعة الشمس الحارقة في صيف رمضان، ومن أمام عربة معدنية صغيرة تحمل فوقها قدرا كبيرا أعد فيه طعام العدس وسط عدد كبير من الأطباق المعدنية الصغيرة وأرغفة خبز تراصت فوق قفص خشبي اتخذ عم رضا جلسته المعتادة على حجر ليبدأ تنفيذ وصية أبيه وجده.

مجاورة آل البيت والتشبع بحبهم، جعلت من الحج رضا، متصوفًا محبًا لعمل الخير كما صنعت من أبيه درويشا من قبل يسعى لإطعام الفقراء، وهو نفس السبب الذي جعل فعل الخيرات جزءًا لا يتجزء من تكوينه فضلا عن رؤية رآها في منامه للحسين رضي الله عنه وهو يطلب منه إطعام زوار مسجده وإكرامهم والسير على خطى أبيه وجده في إعداد مائدة لعابري السبيل والصائمين.

دون مقابل مادي أو معنوي، لبى العم رضا، نداء الحسين حفيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فراح يساعد أبيه في إطعام الفقراء في كل جمعة من أيام العام، فضلا عن شهر رمضان الكريم، مذ كان طفلا صغيرا، حتى ورث تلك الطاعة وأصبحت عهدا عليه واجب النفاذ في شبابه وشيخوخته.

يكبر الرجل وتكبر معه التجاعيد ويتقدم في العمر ولا يتراجع عن الوصية حتى لو كلفه الأمر المزيد من الجهد الذي لم يعد يقوى عليه ذلك السد النحيل الذي يسد رمقه ببضع لقيمات لا أكثر.

يقتطع عم رضا، من ساعات اليوم الطويل، بضعة دقائق بالكاد، ليخلد فيها للنوم بعد عمل شاق على مدى اليوم والليلة، حيث يبدأ "رضا"، يومه بالاستيقاظ قبل صلاة الفجر التي يؤديها بمسجد الحسين رضي الله عنه وأرضاه، ثم يبدأ في تحضير وإعداد قدر كبير من العدس، تكفي مئات الصائمين.

يطمئن الرجل على إتمام عملية الطهي التي يرفض الكشف عن تفاصيل وطريقة عملها معلقا بابتسامة.." لأ دا سر المهنة، ولا عاوزة تنافسي عمك رضا في طبق العدس بتاعه".

ينضج طعام الدرويش الزاهد، ليبدأ بعدها مهمة أخرى وهي التوجه نحو أحد الأفران المجاورة بحي الحسين مسقط رأسه، ليشتري عددا لا بأس به من أرغفة الخبز البلدي، ثم يتوجه للسوق لجلب المزيد من الجرجير والبصل الأخضر باعتبارها مكملات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها مع وجبة العدس الشعبية التي جسدت دور البطولة على مائدته المتواضعة المعدة للصائمين في رمضان.

ورغم كبر سن الرجل ورغم أنه لا يصنف ضمن فئة الأغنياء أو حتى الطبقة المتوسطة، إلا أنه يصر على عمل مائدة رمضانية عنوانها البساطة والحب، تمتد على مدى 30 يومًا هي عمر شهر رمضان الفضيل.

كل ما يقوم به الرجل يعد تقربًا لله لذا لا يجد حرجًَا في القبض على مقشة صنعت من جريد النخل، ليقوم بتنظيف المكان لضيوفه وكنس الأرض وتطهيرها من مخلفات الغير، ثم يقوم برش المكان وتهيئته تماما لزواره، ليفرش بعدها الأرض بحصير كبير أكل منه الزمان وشرب، يجلس عليه هو و ضيوفه عند انطلاق أذان المغرب.

كريم، معطاء، حلو اللسان، بشوش الملامح، دائم الذكر،لا يبخل على زواره بأي شئ، سخر حياته لله – هكذا شهدوا له حين انشغل هو بتقليب العدس في القدر بحياء وهو يردد" كله من فضل الله وبألف هنا وشفا".

ولد الحج رضا فى حى الحسين، وورث عمل الخير وفضيلة إطعام الطعام للفقراء، عن جده وأبيه لقناعة تدور بداخله تؤكد له أن إطعام وإفطار صائم أو عابر سبيل، من أفضل الأعمال التي يتقرب بها العبد لمولاه.

"ضيوف فرشتي محبي آل البيت ومن زوار المقام اللي بيشرفوا من الأقاليم، دا غير الدراويش الزهاد وأهل الفضل، والغلابة وأصحاب الحاجات الكرام اللي على باب الله"- وفق ما قاله الرجل الذي جلس بعمامته البيضاء وثوبه الذي لم يسلم من بقع العدس.

دون أن تدفع مليما واحدا أو تشعر بغربة أو حرج، تجد نفسك تمسك بطبق صغير وتطلب من العم رضا بعض العدس، ولا تجد حرجا على الإطلاق إن طلبت المزيد والمزيد فأنت في ضافة رجل مسن، برع في عمل وجبة عدس لن تنسى مذاقها ما حييت وكأنها خرجت من يد شيف محترف.

غلاء الأسعار وارتفاع التكاليف، لم يثنيا الجد رضا، عن عزمه، كما لم يؤثرا على مائدته المتواضعة بعكس أغنياء كثر قرروا التراجع والتقهقر للوراء حيث يقول "من ذاق عرف ومن عرف اغترف" ليؤكد أنه يجد نفسه مسئولا عن الجياع و عابري السبيل الذين يخلدون للنوم لساعات طويلة على حصيره حتى يحين موعد الرحيل لبلادهم ومحافظاتهم.

"تكية عم رضا"-هكذا صنف أهل الجوار عربة الرجل وحصيرته البلاستيكية، ليعيدك التشبيه بزمن التكايا التي أسست في العصر العثماني، لأصحاب الحاجات والفقراء ومن تفرغوا للعبادة فقط من أهل الزهد والصوفية.

يخبرنا الشيخ رضا أنه أحيانا يستبدل قدر العدس بـ"الملوخية" حتى لا يمل ضيوفه الطعام ويأكلوه على مضض ليستكمل حديثه.." في ناس كتير من أهل الخير المتطوعين الطمعانين في رضا ربنا بيساعدوني في توزيع الأكل على الصائمين وقت الإفطار عشان الكل يأكل مع لحظة الآذان ويسد جوعه وأنا هما نبقى ناكل بعدين".

"للعطاء لذة لا يشعر بها شحيح النفس والبخلاء"- حكمة لم يبخل بها علينا الرجل الفطن الذي لم يلتحق بصفوف الجامعيين ولكنه حفظ القرآن الكريم عن طريق الكتاتيب.
"اذكر الله.. أحمد الكريم.. صلي على اللي هيشفع فيك.. قول لا إله إلا الله وأترك الحمل لمولاه" عبارات لا تتوقف على لسان الرجل يذكر بها ضيوفه الذين التفوا حول مائدته قبل انطلاق مدفع الإفطار لتتحول "حصيرة" عم رضا لحلقة ذكر تحفها الملائكة ورضا الرحمن.

"إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" -صدق الله العظيم- آيات في كتاب الله هي لسان حال الرجل "طالب الرضا" الذي حمل من اسمه الكثير من الصفات، مع تكيته متواضعة لا تجلب عليه درهما ولا دينارا وإنما يحصد من خلالها آلاف الدعوات الصائمة، فضلا عن أجر من وفقه لتلك الطاعة.

يتهلل وجهه بالفرح وهو يختلس بعض النظرات لوجوه الجياع وقد شبعت بطونها فراحوا يتبتلوا إلى الله بالحمد والشكر على نعمة الشبع، ويكون بهذا عم رضا، قد حقق مراده بتنفيذ وصية أبيه وجده الحسين.

يرحل الزوار كلا نحو طريقه، ويغط في النوم على حصير عم رضا المنهكون، ليقوم هو بمساعدة آخرين، ليجمع الصحون من الأرض ممن أنهوا طعامهم وانصرفوا، لتبدأ مهمة جديدة في غسل تلك الأطباق وتنظيفها ووضعها في القدر الذي خلى تماما من طعامه الشهي، لينصرف هو الآخر تاركا عربته في العراء ليقوم بأداء صلاة المغرب في انتظار العشاء والتراويح ليعود لبيته مجددا، ويباشر ما فعله بالأمس وما سيفعله كل يوم على مدى الشهر الفضيل دون كلل أو ملل.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة