قبل 109 أعوام من الآن، جهز الرجل عربته، ووضع أمامها حماره، الذي يجرها، لينطلق في عادته اليومية، بحثًا عن الرزق بشوارع منطقة كوم الشقافة، القديمة غربي الإسكندرية، ربما كان يومًا عاديًا كسائر الأيام بالنسبة له، إلا أن الإسكندرية في ذلك اليوم، كانت على "موعد مع السعادة"، بإضافة قطعة جديدة في "بازل" التاريخ القديم لمدينة "الإسكندر".
موضوعات مقترحة
فقد سقط حمار الرجل داخل حفرة، ازدادت اتساعًا بدخول الحمار إليها، ومع اتساعها سقطت العربة بداخلها؛ إيذانًا باكتشاف أكبر مقبرة يونانية رومانية بالإسكندرية، مقبرة "الكاتاكومب"، أو كوم الشقافة كما يطلق عليها العامة، والتي تم الكشف عنها كاملة، بعد تلك الواقعة بـ 8 سنوات، في عام 1900.
تعود تسمية "كوم الشقافة"، إلى المنطقة التي اكتشفت بها المقبرة، والتي كانت تشتهر بصناعة الأواني الفخارية، وإلقاء "الفواخرجية" بقايا الصناعة حتى كونت ما يشبه التل "الكوم"، والشقافة هو الاسم العربي، الذي أطلق على المنطقة، إحياءً للاسم اليوناني القديم "لوكيوس كراميكوس"، وهو الاسم الذي عرفت به المنطقة عند الرومان.
الدكتور أحمد عبد الفتاح، مستشار المجلس الأعلى للآثار سابقًا، أشار إلى أن هذه المقبرة تعتبر من أهم مقابر المدينة، وأجمل أثر روماني بها بشكل عام، نظرا لاتساعها وكثرة زخارفها وتعقيد تخطيطها، لافتًا إلى بنائها في القرن الثالث الميلادي، بعد مضى 200 عام على الاحتلال الروماني لمصر.
وأضاف "عبد الفتاح" لـ "بوابة الأهرام"، أن المقبرة قد تم بناؤها في الأصل لعائلة رومانية ثرية، كانت تعيش في الإسكندرية، تتكون من رجل وزوجته وأبنائهما، وجميعهم يعتنقون ديانة تجمع بين دين المصريين القدماء واليونايين والرومان.
ولفت إلى أن هناك تمثالين للأب والأم، موجودين أمام غرفة الدفن، وحولهما رواق ذو أعمدة وعليها نقوش محفورة، مشيرًا إلى أن المقبرة تم نحتها في الصخر تحت الأرض، وتتميز بالنقوش البارزة، وهي فريدة من نوعها، من حيث التصميم والنقوش التي فيها امتزاج الفن المصري بالفن اليوناني الروماني.
وأشار "عبد الفتاح"، إلى أنه مع مرور الوقت، تحولت المقبرة إلى مدفن عام، بعد أن عرف الأهالي بموقعها، وأصبحوا يدفنون موتاهم داخلها، حيث تم الكشف بداخلها عن أكثر من300 مومياء.
وتابع، أن المقبرة تعتبر من مقابر "الكاتاكومب"، التي انتشرت في القرون الثلاثة الميلادية الأولى، في إيطاليا وبعض الجزر اليونانية، وكانت تقتصر على دفن الموتى من المسيحيين، الذين كانوا يعانون من الاضطهاد الروماني لهم، فكانت هذه المقابر تحفر تحت الأرض على هيئة شوارع ممتدة لأميال طويلة، تحفها المقابر على الجانبين، وكانت هذه "الكاتاكومب" تحفر بشكل سريع وفي الخفاء خوفا من بطش الحكام.
وقال: إن الفرق بينهما وبين مقبرة "كوم الشقافة"، أن الأخيرة كانت مخصصة لدفن الوثنيين، وفكرة أنها تحت الأرض تمثل هندسة معمارية؛ لتوفير أكبر عدد من المقابر تحت الأرض.
وكشف "عبد الفتاح، عن خصائص المقبرة، التي تتمثل في وجود طبقة سمكهما 12 مترًا، من سطح الأرض، وهذه الطبقة توفر حماية ضد السلاح والإشعاع النووي، مشيرا إلى أنه خلال الحرب العالمية الثانية، كان هناك عالم آثار وزوجته يعيشون داخلها؛ لحمايتهما من الغارات، وكانا بمجرد سماعهم لأصوات صافرات الإنذار يهبطان لقاعة الطعام الجنائزية.
إذا قررت يومًا زيارة المقبرة - فحسب المنشور الترويجي لمديرية الآثار بالإسكندرية- فهي تبدأ بسلم حلزوني موصل للطوابق الثلاث، والسلم درجاته السفلى أكثر ارتفاعا، ثم يتناقص ارتفاعها تدريجيًا حتى يكاد ينعدم قرب سطح الأرض.
السلم يوجد حول بئر ضخمة، كانت أجساد الموتى تتدلى بالحبال إلى مكان الدفن، وينتهي السلم عند الدور الأول، ببهو على جانبيه توجد فجوتان بشكل نصف دائري، على شكل محراب، ومقعد منحوت في الصخر لجلوس الزوار، ويؤدي البهو إلى حجرة دائرية، يتصل بها بئر ضخمة، وقد عثر في قاع هذه البئر على 5 رءوس حجرية، وهي معروضة حاليا بالمتحف اليوناني الروماني.
على يسار الحجرة الدائرية توجد صالة الاحتفالات، حيث كان يجتمع أقارب المتوفى وأصدقاؤه في مناسبات وأعياد معينة، والحجرة عبارة عن ثلاث أرائك ضخمة كانت توضع عليها وسائل يضجع عليها الزوار وقت تناولهم الطعام، حسب العادة الرومانية، وعلى الجانب الآخر من الصالة المستديرة حجرات للدفن، بها فتحات كانت توضع فيها جثث الموتى، أو فجوات بها أوان تحوي الرماد المتخلف من حرق الجثث، أما الفجوات المنتشرة على الحوائط فكانت توضع بها مسارح للإضاءة.
يتكون الدور الثاني من بهو وحجرة دائرية، وللبهو واجهة رومانية في جزئها العلوي، إذ إنها مقوسة الشكل، وتعلوها زخرفة يونانية على شكل أسنان، ثم يليها من أسفل إفريز مصري به قرص الشمس المجنح بين صقرين، وتستند هذه الواجهة على عمودين بتيجانهما المصريين، وفي كل حائط جانبي توجد فتحة، يوجد بها شخص يمثل على يمين الميت، وعلى اليسار زوجته، والتمثالان فيما عدا الرأسين قد نحتا طبقا لقواعد الفن المصري.
وعلى جانبي حجرة الدفن، نجد زخرفة مختلطة بين الفن الفرعوني واليوناني، من شأنهما رد الشر بعيدا عن المقبرة، فنجد درع الإلهة أثينا، وعليها رأس "ميدوزا"، التي كانت حسب أساطير اليونان تحول من يراها إلى حجر، وبأسفل الدرع ثعبان، يجلس فوق معبد، ويرتدي تاج الوجهين البحري والقبلي.
أما حجرة الدفن الرئيسية، فتتكون من ثلاثة توابيت، عليها زخارف يونانية، والحائط الرئيسي فوق التابوت الأوسط يمثل عملية التحنيط المصرية، أما على الحائط الأيمن والأيسر فنجد إمبراطورا، يرتدي تاج الوجهين واقفا أمام المذبح، ويقدم القرابين للعجل المقدس أبيس، ونجد أكثر من 300 فتحة في حجرة الدفن، كما نجد حجرة خصصت لدفن أتباع الإلهة نيمسيس، وهى إلهة الانتقام التي تقتص للجريمة وتعاقب المذنبين.
أما إيزيس فتقف خلف أبيس، حاملة ريشة العدالة، ناشرة جناحيها رمزا للحماية، وعند الخروج من حجرة الدفن الرئيسية نجد الإله أنوبيس، على اليمين في زي جندي يحمل أسلحة رومانية، يقف على قاعدة على هيئة بوابة فرعونية، ويلتف ناحية المدخل، وإلى اليسار نفس الإله بجسم إنسان نصفه الأسفل ينتهي بذيل تنين، وهذا الإله ممثل في شكل جندي، ويتضح أن هذه المناظر الجنائزية مأخوذة عن العقيدة المصرية القديمة، نقلها الفنان دون أن يعي المعاني التي ترمز إليها.