البساطة، التلقائية الشديدة، المكاشفة، شجاعة اتخاذ القرارات، الصبر، المسئولية المشتركة، الحقائق بدون تجميل، عناوين عريضة وكبيرة لما جرى، خلال مؤتمر الشباب في نسخته الخامسة الأربعاء الماضي، وكل واحد منها يستحق تناوله باستفاضة في مقالات منفصلة، ومن واقع ما تابعته من جلسات ومناقشات ومداخلات للرئيس السيسي، فإن العنوان الأشمل لهذا الحدث البارز كان "تصحيح المفاهيم".
والحرص على تصحيح المفاهيم كان واضحًا فيما قاله الرئيس السيسي، خلال الجلسات الثلاث للمؤتمر، وأول المفاهيم التي تم تصحيحها كان مرتبطًا بمفهوم دور الدولة وحدوده، فالسائد في أذهان الكثيرين أن الدولة عليها تلبية مطالبهم دون أن يضعوا في اعتبارهم مدى قدرتها على التنفيذ، فالحديث لا يهدأ عما يتعين عليها فعله في قطاعات الصحة والتعليم والمواصلات العامة وخلافه، وتوجيه انتقادات لا حصر لها لجوانب القصور الموجودة في الخدمات المقدمة للمواطن، وما تتخذه من إجراءات مؤلمة وقاسية جدًا تزيد من متاعب وأحمال المصريين.
لكن وسط الصخب والضجيج المصاحب للانتقادات والشكاوى تضيع وتتلاشى فكرة مدى استطاعة الدولة، وهنا يتم تصدير صورة غير مكتملة الأبعاد وتبنى عليها الأحكام، وكمثال على ذلك دعوات زيادة المرتبات؛ لكي تواكب النتائج المترتبة على الإصلاحات الاقتصادية، وارتفاع الأسعار، إذ يغيب عن الداعين لذلك الحق المشروع، أن الدولة تقترض 150 مليار جنيه حتى تدفع الزيادات المقررة سلفًا للمرتبات عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير، وأنه عليها ـ الدولة ـ سداد ما اقترضته بفوائده، وأن الجهاز الإداري للدولة مكدس ومثقل بملايين الموظفين الذين لن يقدر أحد على فصلهم حسبما قال الرئيس السيسي، لأن الفصل سيلحق الضرر البالغ بملايين الأسر.
ثم إن الصورة المكتملة مشروطة بجزئية حتمية الإقدام على اتخاذ القرارات الصعبة، وما سيترتب على عدم اتخاذها، فلو لم نطبق الإصلاحات الاقتصادية هل كان العالم سوف يشيد بنا مثلما يفعل الآن، ويتشجع المستثمرون على ضخ استثماراتهم باتجاه مصر؟
ثاني المفاهيم التي تم تصحيحها يتصل بحياتنا السياسية ومدى تردي مستواها، فالنظرة الغالبة والمسيطرة أنه ليس لدينا حياة حزبية نشطة ومؤثرة، ويسود الاعتقاد بأن العمل السياسي يقتصر على المظاهر الاحتجاجية وحسب، وأن الدولة غير راغبة ولا عازمة على السماح بتنشيط العمل الحزبي، بل وتضيق عليه طوال الوقت.
المرددون لهذا الرأي لم يتوقفوا عند قدر مسئولية السياسيين، والمنخرطين في تسيير شئون 108 أحزاب شرعية عن شكل ومآلات الوضع الحزبي الراهن، وهل فكروا في المصلحة العامة؛ بالسعي لدمج الأحزاب المتوافقة في الاتجاهات والأفكار في 3 أو 4 تكتلات تستطيع بواسطتها المنافسة بقوة، وفوق ذلك هل لدينا السياسيون المؤهلون حقًا للعمل الحزبي؟
وبالرجوع لكلمة الناشط المعروف محمد عبدالعزيز في أولى جلسات المؤتمر، ستجده يطرح تساؤلات كاشفة ولافتة، منها كم مرة أجرت الأحزاب القائمة في الساحة عملية حقيقية لتداول السلطة داخلها، فهي تطالب دائمًا في خطاباتها بتداول السلطة؛ لكنها لا تطبق القاعدة على نفسها، وتساءل كم شابًا بالأحزاب يشغل مناصب قيادية، وأنها ـ الأحزاب ـ تحصر تفكيرها فقط في الانتخابات الرئاسية وتهمل المنافسة بالمجالس المحلية التي يمكن أن تكون مجالًا واسعًا لنشاطها، ومن خلالها تفرز وتبرز أسماءً تصلح للدفع بها للبرلمان وخوض السباق الرئاسي في مرحلة تالية، وأن تطرح بدائل ورؤى واقعية لأزماتنا.
ومن هنا نستطيع فهم دعوة الرئيس للمواطنين باختيار الأفضل في الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها؛ لأن الاختيار الجيد سينتج عنه ممثلون يدركون طبيعة دورهم وقيمته بالمجالس المحلية، ويسعون بجدية لحل المشكلات المتراكمة في محافظاتنا.
ثالث المفاهيم التي خضعت للتصحيح من وجهة نظري كان متعلقًا بالمواطن وثقافة الاعتداد به كشريك فاعل في جهود التقدم والتحديث، فالرئيس السيسي يرسخ هذا المفهوم في كل مناسبة يشارك فيها؛ عبر حديثه عن أن المسئولية مشتركة، فالبلد لن يتقدم إلا ويد المواطن في يد الحكومة، وأن التحديات التي تواجه مصر أكبر من أي رئيس وحكومة، مما يستدعي تكاتف الشعب، وأن مبدأ المشاركة كفيل بحمايتها مما يحاك ضدها من مخططات تبغي عرقلتها؛ حتى لا تسير للأمام، وأنه لا تسامح مع الساعين لإحباط المصريين وتحطيم آمالهم وتطلعاتهم في بناء دولة قوية ومؤثرة بالفعل وليس بالكلام.