Close ad

الدواء المسموم بزرنيخ الأسعار

29-5-2016 | 18:59
وسط رفوف الأودية يقف المواطن "أحمد إبراهيم" أمام الصيدلي وجهًا لوجه دون أي وسيط أو حكمدار ينقذ الأول من تعاطي الدواء.. الدواء ليس سامًا، لكن ثمنه بات أشد قسوة من الزرنيخ.. الصيدلي متمسك بزيادة سعر الدواء بنسبة 20% على الشريط، والمواطن مصر على الحد الأقصى لارتفاع السعر على العبوة كاملة بـ 6 جنيهات، وكلاهما يستند لقرارين رسميين صادرين عن جهة واحدة!!

"إبراهيم"، مفجوع منذ وطأت قدمه الصيدلية، استغرب من طرح الشركات أصنافًا جديدة من الأدوية، بواقع شريط لكل علبة، لكن دهشته تبددت مع انقشاع ضباب الخطة المحكمة للشركات لنهب جيبه، كانت العلبة التي يشتريها تتضمن ٣ أو ٤ أشرطة لكن الشركة جعلتها شريطًا واحدًا قبل قرار الحكومة بأيام، ولا يعرف كيف استعدت الشركات للقرار قبل صدوره ليزيد السعر على كل شريط أو أمبول بنسبة ٢٠٪ قبل أن تفيق الحكومة وتضع حدًا أقصى للزيادة عند 6 جنيهات.

المواطن "المذكور أعلاه"، مصاب بالسكري كنحو ٧.٥ مليون مصري آخرين، ويعاني ارتفاعًا بالضغط مثله مثل ٦ ملايين مصري، بجانب عدد آخر من الأمراض المزمنة التي يكابدها ٧٣٪ من المواطنين، كما أنه يمرض بالأنفلونزا التي تتطلب مضادًا حيويًا أشهر أنواعه زاد من ٥٠ إلى ٧٥ جنيهًا في يوم واحد، كما يعاني من الصداع وآلام المعدة والأسنان والعظام، وكلها طالتها نيران الأسعار.

ترسانة الأدوية التي يتناولها "المذكور" يعود معظمها للشركات متعددة الجنسيات إذ تسيطر ٦ منها فقط على ٤٢٪ من مبيعات الأدوية في مصر، وفقًا لبيانات 2014،. في مقدمتها شركة "جلاكسو سميث كلاين" البريطانية بحصة 7.5% من المبيعات تليها شركة "نوفارتس" السويسرية بحصة سوقية بلغت نحو 6.7%، ثم شركة "سانوفي"الفرنسية بحصة بلغت نحو 6.3%، ثم "فايزر" و"بريستول مايرز سكويب" الأمريكيتين بنسبة 4.2%، ثم "سيرفير" الفرنسية فحصتها 3%.

ووفقًا لبيانات "الحق في الدواء" لعام 2015، بلغت مبيعات "نوفارتس وجلاكسو وسانوفي" 4.4 مليار جنيه، بينما قفزت شركة "آمون فارما"، التي اشترتها شركة "فاليانت الكندية للمختبرات الطبية" إلى المركز السادس، بمبيعات قدرها 782 مليون جنيه.

سوق الأوجاع في مصر وأرباحها، جعلها تحت نظارة الاستثمارات الأجنبية، فمنذ 2007 شهدت غزوًا من الشركات الأجنبية ومتعددة الجنسيات، التي تسيطر حاليًا على نحو ٤٦٪ من سوق الدواء بمصر حاليًا مقابل ٥.٩٪ فقط لقطاع الأعمال، ليتبعها زيادة عدد المصانع المنتجة للدواء من ٧٩ مصنعًا عام ٢٠٠٨ لـ ١٢٤ مصنعًا في ٢٠١٢، بالإضافة إلى ارتفاع شركات الأدوية والتوزيع لتصل إلى ٤٧٠ شركة في ٢٠١٣.

سوق الاستحواذات في مصر لم ولن تتوقف، ففي العام الماضي توسعت شركة حكمة الأردنية للأدوية لتستحوذ على "إيمك يونايتد للأدوية"، التي تعتبر أول الشركات في الشرق الأوسط إنتاجًا لأدوية الأورام بواقع 18 مستحضرًا، كما استحوذت الشركة الأردنية أيضًا على "ألكان فارما" في 2007، و"المصرية للأدوية والصناعات الكيماوية" في 2013.

المواطن المصري يتحمل نسبة تصل إلى ٧٠٪ من إجمالي الإنفاق الكلي على الدواء، بينما تشير دراسة لمنظمة الصحة العالمية قبل ١٢ عامًا إلى أن سعر الدواء في مصر لا يزال مرتفعًا نسبيًا عند مقارنته بمتوسط الدخل الفردي بصورة تجعله "غير متاح" لقطاع كبير من المواطنين، ولنا أن نتوقع ماذا ستقول المنظمة عن زيادات الأسعار الأخيرة؟

صناعة الدواء في مصر، تمثل واحدة من أقدم الصناعات إذ تأسست شركة مصر للدواء عام 1939 بمبادرة طلعت حرب باشا، وتلاها النصر للمنتجات الكيميائية التي تخصصت في إنتاج المادة الفعالة للدواء، وبدأت في التوسع مع إنشاء الهيئة العامة للصناعات الدوائية، والتي استمرت في عملها بين 1962 و1973، وساهمت في تأسيس شركات متوسطة متخصصة في إنتاج الأدوية.

وحاليًا يتبع الشركة القابضة ١١ شركة هي: تنيمة الصناعات الكيماوية "سيد"، النيل للأدوية، ممفيس للأدوية، القاهرة للأدوية، العربية للأدوية، الإسكندرية للأدوية، النصر للكيماويات الدوائية، الجمهورية للأدوية، المصرية لتجارة الأدوية، العبوات الدوائية، مصر للمستحضرات الطبية، وحصتها جميعًا من السوق لا تتجاوز ٦%.

واقع الشركات الأجنبية العاملة في الدواء حاليًا يعود بنا إلى عصر ما قبل الصيدلي المصري محمد حجازي الذي أسس في ١٩٣٤ أول منشأة دوائية مصرية متوافقة مع المواصفات القياسية، بعدما كان الأجانب يحتكرون سوق المستحضرات الصيدلية بالكامل، حتى استطاع المصريون انتزاع ٣٠٪ من مبيعات السوق في الفترة من 1940 إلى 1965، قبل أن يعاود الأجانب "إعادة الغزو" مطلع الألفية الثانية.

قرار الحكومة ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.. سعت لتشجيع الشركات على إعادة إنتاج الأصناف الرخيصة، لكنها ساهمت بسوء التخطيط في إشعال الأزمة، وخلق حالة من الفوضى، وأكبر موجة غضب شعبي منذ ٣٠ يونيو، الحكومة تعاملت مع الدواء كقطاع من الخراف، تناست عن جهل أو وعي أن الدواء ليس سلعة، ولكنه "حياة أو موت".

المواطن يمكنه تحمل ارتفاع أسعار السلع الغذائية التي تواصل مسيرة الانطلاق يوميًا، لكن "كله كوم والدواء كوم"، كان يمكن إصدار قائمة سعرية واضحة لكل صنف تحدد طريقة زيادته، بما يشجع الشركات على الإنتاج ويحمي المواطن من الابتزاز، خصوصًا مع محدودية دعم التأمين الصحي والأدوية، والذي يبلغ في الموازنة العامة الجديدة 2016/2017 نحو 4.3 مليار جنيه، بما يعادل 47.7 جنيه فقط لكل مواطن.

أحمد إبراهيم.. لن ينجده الحكمدار قبل أن تقبل فوهة الزجاجة المسمومة فمه، كما في السينما؛ لأنه ببساطة لن يرسل ابنته إلى الأجزاخانة، ولن يسلبها منها أحد المخمورين.. أحمد إبراهيم لن يتناول الدواء؛ لأنه لا يستطيع دفع ثمنه، والشركات لن تضحي بأرباحها من أجل إنقاذ حياته.. إبراهيم ينتظر شفاء من الله.. لا يراهن على الحكومة في حل مشكلته؛ لأنها أصلًا سبب المشكلة.
كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
أغلقوا كليات الإعلام

ما دمت أنا مقدم البرنامج.. فأنا البرنامج.. أنا من فيه.. انا ما فيه.. أنا السماعة والمايك والكاميرا.. بل أنا الاستوديو والضيف والمحلل.. بل أنا أنتم أيها

احترموا ذلك القميص

احترموا ذلك القميص الطاهر الذي يصدر منه كل شيء.. "احترموا قميص الفلاح".. ستتحطم كل الأصنام الأخرى.. عليكم أن تؤمنوا بالفأس.. ضرباتها في الأرض هي الأصل.. هي مصدر الحل لجميع مشكلاتكم الاقتصادية".

فضيحة القطن

دفع محمد أبوسويلم جزءًا من جسده للدفاع عن محصوله من القطن، تمسكت يداه بعيدانه القوية المتشبسة بالأرض، لم يعبأ بسحله، أو الكرباج الذي يحول ظهره لخيوط من

كوب لبن لكل طفل.. حلم لناصر "اغتاله" مصيلحي

عرف المصريون لأول مرة أن هناك ما يسمي باللبن المبستر مع إعلان كاريكاتوري يحمل عنوان "غلطانة".. بحثوا عن رمسيس الثاني الذي ترك موقعه بباب الحديد بوسط القاهرة

أرواح وأموال تحت عجلات القطار

لا يعرف أمراض السكك الحديدية بمصر إلا الذين ابتلاهم الله باستقلالها يوميًا، ليشهدوا بأعينهم الانهيار المستمر لأهم مرفق حيوي، وثاني أقدم خط حديدي في العالم بأسره.

فقراء بلا أسلحة

في ٢٠١٦، "محارب" لم يحمل بيده سلاحًا أو يقف على جبهة.. معركته متواصلة مع عدو متجدد باستمرار.. يتلون كالحرباء.. إنه المواطن الذي يخوض معركة شرسة مع الأسعار،

حكومة فوق جناح دجاجة

لفهم قرارات الحكومية المصرية تحتاج إلى كتالوج طويل، يساعدك على كشف التناقضات، وتفسير المبررات، والبحث عن تأويلات، دون أن تجد من أي مسئول حكومي أي توضيحات

الحب في زمن الدولار

لم يعد الدولار شبحًا يؤرق الاقتصاد المصري على المستوى الكلي، بل بات "شيطانًا" يقطن البيوت مشعلًا الخلافات، فلا جدال إلا عن الإنفاق، ولا تفكير سوى في الترشيد،

"تعويم" الأرض

لا يشغل أصحاب الياقات البيضاء من المسئولين بالهم بالفلاح كثيرًا، إنه طرف ضعيف في تركيبة المجتمع، تعود على الصمت، فلا نقابة قوية تعبر عنه، ولا الوزراء ونواب

رقم 13 بين تعويم الجنيه و"إغراق" المواطن

يبدو أن قدر الاقتصاد المصري أن يظل مقترنًا بالرقم 13 بصفاته التشاؤمية الكاملة، فبعد 13 عامًا من تعويم الجنيه ينتظر المحافظ رقم 13 للبنك المركزي المصري

وما المواطن إلا قطعة شطرنج!

كقطعة شطرنج تعامل مسئولو الحكومات السابقة مع المواطن.. وضعوه في خط الدفاع الأول.. لأنه من السهل "التضحية" بصف من "العساكر" للحفاظ على القطع الأكثر ديناميكية

كيف نقضي على الدائرة الشيطانية للدولار؟

كحصان جامح يسابق سلحفاة، يواصل الدولار الركض أمام الجنيه المصري بالسوق السوداء، مخلفًا وراءه سيلًا من الغبار يكسو وجوه المسئولين، عن السياستين المالية والنقدية في مصر.