Close ad
12-4-2016 | 19:02
بعد عدة أيام من استقراري في مدينة جوانزو الصينية عام 2013م أخذت أبنائي إلى المدرسة العربية لبداية الدراسة، فاتجهنا مباشرة لمكتب المدير، فإذا هو الاستاذ (سيد) من مصر، وكان في سابق علمي أن المدرسة يملكها مستثمر من أهل الشام، فكنت أحسب أني سأجد مواطنيه في إدارتها، وإذا بالأستاذ سيد يعرفني على الكادر التعليمي والإداري، وكان جُلُّهم من مصر، شعرت حينها بشيء من الرضا والاطمئنان؛ فللمعلم المصري تاريخ عريق معنا نحن السعوديين، ولهم بصمة في نفوسنا وفي تكويننا العلمي والثقافي.

الأستاذ سيد جمعتنا الغُربة به وبزملائه الذين صاحبناهم، وأصبحنا نخرج معهم للنزهة، ولتمضية أوقات الغربة العصيبة، والعجيب أن هؤلاء المصريين في الصين لم تتبدل شخصياتهم، ولم تتأثر بالصينيين ولا بغيرهم، بل حافظوا على هويتهم وطبائعهم وظرافتهم وطقوسهم حتى في مسألة الطعام؛ فقد أصبح من الواجب نهاية كل أسبوع أن نذهب لمطعم صديقنا المصري (علي)، والذي يقدم الأكلات المصرية وكأننا في أحد شوارع القاهرة أو الإسكندرية، ذلك الطعام الذي يحمل النكهة والذوق المصري الأصيل من "محشي وفراخ ورز وملوخية وبامية وبعدها الشاي المزبوط من يد المعلم (حسن)"، الذي قَدِم من مصر خصيصًا للعمل في هذا المطعم.

صديقنا الأخ (علي) -صاحب المطعم- له أيضًا مكتب استيراد وتصدير، وفَتَح اعتمادًا لدى شركة شحن كبرى يقوم من خلاله بخدمة الجالية العربية في جوانزو، حيث يشحن حاجياتهم وأغراضهم -مهما بلغ حجمها- بسعر أرخص بكثير من شركات الشحن الأخرى، وبذلك يقدم خدمة جليلة للناس، ويخفف عنهم الكثير من التكاليف الباهظة، وتفاجأت بأنه لا يستفيد منها ماديًّا بحجم ما يقدمه من خدمة، ولكنه -على حد قوله- مستمتع بخدمة الناس والرزق من عند الله، وأردف يقول لي؛ كم كنت أتمنى أن أجد هذه الخدمة عندما أتيت للصين قبل سنوات، فقررت أن أبدأ بها وأخدم الناس في الغربة، وأساهم في تسهيل أمورهم، ومع الأيام فإذا به يعتبر مرجعًا ومصدرًا للمعلومات في جوانزو ويحظى بثقة الجميع.

في الحي الذي أسكن فيه بجوانزو كنت ألمح ذلك الوجه الصعيدي، ولم يكن يتوانى عن التلويح بيده من بعيد كلما رآني، وهو لا يعرف عني شيئًا سوى أنني عربي وشكلي ليس مثل الصينيين، وفي يوم من الأيّام دخل علينا مقهى بجوار السكن، وبصوت جوهري صدح بالسلام والترحيب، وتبادلنا التحايا وكأننا إخوان لم يتقابلوا من سنين، وجلس يحكي لي عن نشاطه في تصدير المواد الغذائية لمصر؛ مما جعله يتردد على جوانزو بشكل دائم طوال العام، حتى قرر استئجار شقة بشكل دائم، والتي يعتبرها سكنًا ومكتبًا له ولأصدقائه الذين يصطحبهم.

بعد عدة أشهر من وجودي في جوانزو دعاني أحد الأصدقاء السعوديين لمصاحبته في زيارة للمرضى العرب في مستشفى فودا لعلاج السرطان، وأخبرني بأنه ومجموعة من أصدقائه هذا ديدنهم من فترة لأخرى، أخذتني الحماسة وصحبته بالباص والتقينا بأصحابه؛ فإذا بثلاثة أشخاص من مصر لم أشاهدهم من قبل، دخلنا للمستشفى، فإذا بهم يعرفون غرف المرضى وينادونهم بأسمائهم، وأنا متعجب للروح السامية التي يتمتعون بها في معاملتهم للناس، والتي تحمل العطف والشفقة وحب المساعدة، ذهبنا بعدها للعشاء، وإذ هُم تجار يترددون على الصين، وعند قدومهم لجوانزو يضعون في اعتبارهم زيارة هؤلاء المرضى؛ طلبًا للأجر؛ ولتخفيف الألم عنهم ولو بكلمة طيبة وابتسامة رقيقة أو نكته لطيفة، وبقدر دهشتي منهم وبمستوى إنسانيتهم إلاّ أنني تعلمت منهم معنى أن تكون إنسانًا، فإذا كانت مصر هبة النيل -كما يقول المؤرخ الإغريقي هيرودوت- فإن الإنسان المصري هو هبة الحياة.

-كاتب وصحفي سعودي
تويتر: @mhamza22
كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة