يعود محمد سلماوي في كتابه الجديد "العفريتة" إلى عناوين متصلة بعشقه القديم لمسرح العبث، ويذكرنا بمسرحيات "فوت علينا بكره" و"اللي بعده" و"اثنين تحت الأرض" (اثنين في البلاعة)..
وإذا كان الفيلسوف الفرنسي آندريه مالرو قال: "في اللب من الإنسان الأوروبي ثمة عبثية جوهرية تسيطر على اللحظات الكبرى في حياته" فإن في القلب من المصريين حس السخرية حتى في أصعب اللحظات..
ويضم "العفريتة" (هيئة الكتاب) مقالات سلماوي الساخرة التي سبق ونشرها في الصحف، هي عفريتة الصورة، والتي عرفناها عند مصوري الشوارع والميادين، وفي الغرف الحمراء في معامل التصوير في المؤسسات الصحفية، وهو حرص من البداية على شرحها لمن لا يعرف: العفريتة هي التي كانت تستنسخ منها الصور، وفي العفريتة تكون الألوان معكوسة، فالأسود فيها أبيض، والأبيض أسود، ومن خلال هذه الألوان المعكوسة كانت تطبع الصورة بشكلها الصحيح.
ورغم أسلوب اللا معقول يتضح من مقالات الكتاب أن سلماوي (76 عامًا) شديد الاهتمام أو لديه أفكار أو قضايا كبرى اختار أن يعبر عنها بحبكة مريبة، لكي يتابع القارئ بشغف كل هذا الإهمال وعدم الاعتناء بالمنطق، وليعرف أن عليه في النهاية أن يرى الصورة الدقيقة والسليمة.
فاحتراق قطار في "مصر بلد السياحة" جاء في حديث مزعوم بين الكاتب وسياح فرنسيين قادمين على متن طائرة، لنعرف إلى هذا الحد كان الألم من احتراق قطار الصعيد بركابه في فبراير 2002.
كما أن "قل ولا تقل" نوع من الاحتجاج على الاستلاب الثقافي ومقاومة محاولات تمرير مصطلحات الشرق الأوسط الجديد وصراع الحدود مع إسرائيل والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي والمطالب الفلسطينية والمستوطنات اليهودية، والإرهاب الفلسطيني وهو مستنقع مصطلحات مدروسة بعناية لكي نستخدمها بديلا عما نعرفه وحاربنا من أجله.
وإذا كان كثيرون صدموا من إصدار ورقة نقدية بمائتي جنيه في عام 2007 فإن الكاتب ذا النزعة المسرحية العبثية يعود إلى المليم والنكلة والتعريفة والقرش الذي لم يعد أبيض كما أنه لم يعد ينفع في أي يوم.
وكتابة العبث واللامعقول في المسرح كما الكتب هدفها التوعية الجادة وأساليبها هي السخرية، والتي أحيانًا تضحك من المسئولين وعليهم، كما نتابع الحوار شبه المسرحي في مقال "صحفي أجنبي مستفز" بين المؤلف والصحفي، حيث يرد المؤلف بلؤم شديد على الكثير من الانتقاد لديمقراطية الحزب الوطني الديمقراطي.
وعندما يسأله الصحفي عن الأمية الأبجدية، يتذكر تصريحًا للصديق الدكتور عبدالعظيم وزير محافظ القاهرة أنه سيتم قريبًا إعلان حي غرب القاهرة بلا أمية، فيقول الكاتب للصحفي إنك لو ذهبت إلى حي غرب القاهرة مثلا وبحثت فيه عن مواطن واحد أمي فسيعييك البحث ولن تجد مثل هذا المواطن، لأن حي غرب القاهرة بلا أمية، قال الصحفي الأجنبي: وأين ذهب الأميون؟ قال الكاتب: ربما يكونون قد عبروا الشارع إلى حي شرق القاهرة.
تلك النوعية من التصريحات كان الوزراء والمحافظون وأعضاء لجنة السياسات بارعين فيها، وقد التقيت المحافظ، ودعوته إلى برنامج "كلام مسئول" في التليفزيون المصري، وقلت له إنني أعمل في "الأهرام" وأتمنى أن أعود إلى منزلي في شارع السودان سيرًا على الأقدام، فابتهج المحافظ لهذا التوجه، لكنني قلت له إنني لا أتمكن من السير على الرصيف بسبب باعة الملابس المستعملة وغيرهم الذين يحتلون الرصيف ونصف الشارع، ابتداء من مستشفي الجلاء للولادة، حتى مطلع كوبري مايو عند مسجد السلطان أبوالعلا، فذهب الابتهاج وقال لي: شوف حاجة تركبها أحسن، وتدخل مقدم البرنامج الأستاذ محمد صلاح مقترحًا التوك توك.
وأعود إلى مقال سلماوي الذي أكد فيه للصحفي الأجنبي أن النساء يتحرشن بالرجال خاصة الضباط والعساكر، أما المتظاهرون فهم الذين يضربون قوات الأمن في كل مظاهرة.. وأعود أيضًا إلى ما رأيته بنفسي مع صنع الله إبراهيم ومحمد هاشم من عكس ما رواه سلماوي على سبيل السخرية، ويواصل: فضرب الرجل كفا بكف ولم يرد فتأكدت أنني قد أفحمته.
ويمعن الكاتب في سخريته اللاذعة بنشر رسالة من صديق وصلته عن طريق البريد الإلكتروني تقول: لست أفهم لماذا يتشاءم الناس من "وزرائنا الميمونين"، وكيف يمكن لأي مواطن مصري أن يتشاءم أو يحزن أو ييأس في بلد رئيس وزرائه نظيف ورئيس برلمانه سرور ووزير داخليته حبيب ووزير إعلامه أنس ووزير مجلس شعبه مفيد ووزير ماليته غالي.
ويتهم صديقه الصحافة بأنها تسود صورة الوزراء عن عمد بينما صفحتهم مشرقة مثل أسمائهم تمامًا.. ويعيدنا سلماوي إلى رضا الناس عن حكومة نظيف والذي وصل في "استطلاع علمي ومحايد وموضوعي" إلى 89% أجراه مركز المعلومات التابع للحكومة، وأشبع الحكومة والوزراء سخريةً.
والتهكم يزداد حساسية بتناول سلماوي قضايا شائكة من نوعية نشر ثقافة طالبان في مصر وفتاوى التماثيل كاملة أو نصفية وعلاقاة الجن والملائكة والجماعة "المحصورة" والمذيعات المحجبات وفستان يسرا... إلخ
هي تفاصيل زمن مضي، لكن فضيلة نشر "العفريتة" الآن أنها بسخريتها اللاذعة يمكن أن تفيد دائما..