يعتبر اليوم الثلاثاء (23 فبراير 2021) يوما فارقا بالنسبة لمسارات حل أو تأجيج الأزمة المتفجرة هذه الأيام حول الاتفاق النووى الذى وقعته «مجموعة دول 5+1» مع إيران عام 2015 أى الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى وهى الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا إضافة إلى ألمانيا.
هذه الأزمة تحركت خطوات محدودة لكنها مهمة خلال الأسبوعين الماضيين. فبدلاً من انسحاب الولايات المتحدة فى ظل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من هذا الاتفاق فى أغسطس 2018 واتخاذها سياسة مسرفة فى عدوانيتها ضد إيران جاءت الإدارة الجديدة للرئيس جو بايدن لتؤكد نيتها فى العودة إلى الاتفاق النووى الموقع عام 2015 وإنهاء سياسة أقصى عقوبات، وقامت بسحب طلب كانت قد تقدمت به إدارة ترامب إلى مجلس الأمن الدولى بإعادة العقوبات الدولية المفروضة على إيران .
هذه الخطوات الأمريكية يمكن اعتبارها خطوات "حسن نوايا" من جانب إدارة بايدن، ولذلك لقيت استحساناً لدى طهران، لكنها لم تقنع القادة الإيرانيين للقبول بالشرط الأمريكى الأساسى كى تعود الولايات المتحدة إلى الاتفاق وهو أن تقوم إيران بإلغاء كل الخطوات التى اتخذتها فى الأشهر الأخيرة وتصنفها واشنطن والدول الأوروبية خروجاً عن الاتفاق النووى. وأمام عقبة من يتخذ الخطوة الأولى هل هى الولايات المتحدة التى يجب أن تقوم بإلغاء كل العقوبات الأمريكية التى فرضت على إيران وفقاً للمطلب الإيرانى أم هى إيران التى يجب أن تقوم بالتراجع عن كل الإجراءات التى اتخذتها والتى تصنف باعتبارها خروجاً عن الاتفاق، اقترح وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف "التزامن فى اتخاذ الخطوات"، كما اقترح دخول الاتحاد الأوروبى شريكا فى تحريك الأزمة إلى الأمام وهذا جوهر ما يحدث الآن وبوتيرة متسارعة لمنع إيران من تنفيذ قرارها الذى صدر باعتباره قانوناً من مجلس الشورى (البرلمان) ووقعه مجلس الأمن القومى الإيرانى ويقضى بوقف العمل بـ «البروتوكول الإضافى» الملحق بالاتفاق النووى ابتداء من اليوم الثلاثاء، وهو الملحق الذى كان يعطى لخبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية حق ما يُعرف بـ "التفتيش المباغت" لأى منشأة نووية إيرانية، أى التفتيش المفاجئ ودون أى إعلام مسبق للسلطات الإيرانية المعنية.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية دخلت على الخط لمنع إيران من تنفيذ هذه الخطوة، ووصل مديرها رافائيل جروسى إلى طهران والتقى أمس الأول الأحد على أكبر صالحى رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية لبحث تفاصيل التعاون بين الوكالة وإيران، وعلى الأخص إقناع إيران بعدم الانسحاب من «البروتوكول الإضافى» الذى يعطى للوكالة قدرات كبيرة لمراقبة البرنامج النووى ورصد أى انحراف إيرانى عن سلميته، لذلك فإن القرار الإيرانى المنتظر اليوم إما بتنفيذ قرار الانسحاب من هذا البروتوكول، الذى يعنى انطلاق إيران «دون رقيب» نحو تطوير قدراتها النووية، وإما بالعدول عنه سيكون علامة فارقة فى كشف حقيقة القناعات الاستراتيجية الإيرانية بخصوص جدوى الإبقاء على الاتفاق النووى الراهن من عدمه.
حتى الآن يصعب الجزم بخصوص ما هو «الخيار الاستراتيجى الإيرانى» فما يصدر عن إيران من تعليقات وردود فعل، يؤكد فى معظمه، أن إيران حريصة على الإبقاء على الاتفاق النووى شرط أن تعود إليه أمريكا عملياً بإلغاء مسبق لكل العقوبات التى فرضت «ظلماً» عليها. وتأكيداً للنية الإيرانية فى الالتزام بالاتفاق النووى بدأت إيران تتفاعل إيجابياً مع مقترح قدمه الاتحاد الأوروبى بعقد اجتماع غير رسمى لمجموعة «4+1» أى الدول الخمس التى حافظت على التزامها بالاتفاق بعد الخروج الأمريكى منه وبحضور كل من إيران والولايات المتحدة، حسب تصريحات مهمة أدلى بها عباس عراقجى مساعد وزير الخارجية الإيرانى للشئون السياسية.
هل سيقود هذا المسار الذى يقترحه الاتحاد الأوروبى إلى بناء الثقة الكافية لعودة أمريكية للاتفاق تلبى المطالب الإيرانية، أم أن هذا المسار يمكن أن يكون «مصيدة لإيران» للأخذ بها نحو بدء مفاوضات جديدة لشروط واشنطن لمرحلة «ما بعد العودة للاتفاق»؟
السؤال مهم ولذلك بدأت إيران، وربما للمرة الأولى، بالتلميح إلى «الخيار البديل»، أى التهيؤ للانسحاب من الاتفاق النووى، وربما الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كليةً، والتقدم بثبات نحو «خيار نووى عسكرى».
السؤال بات مطروحاً فى إيران ، وربما فى الأروقة الضيقة فى ظل مخاوف إيرانية من تحديات خطيرة باتت تتهددها، إيران ظلت على مدى عقود حريصة على عدم فتح ملفات القدرات النووية العسكرية الإسرائيلية، خشية أن يؤول ذلك على أنه مؤشر على وجود نية إيرانية لامتلاك سلاح نووى، لكن بدأ الحديث عنه على استحياء الأيام الماضية على لسان وزير الأمن الإيرانى محمود علوى أولاً ثم على لسان محمد جواد ظريف وزير الخارجية ثانياً. علوى فجر منذ أيام قنبلة من العيار الثقيل عندما تحدث عن إمكانية تطوير بلاده سلاحاً نووياً إذا استمر فرض العقوبات على طهران، وقال فى مقابلة تليفزيونية مع القناة الثانية بالتليفزيون الإيرانى مساء الاثنين (8 فبراير 2021) إنه «إذا تم الدفع بطهران نحو صناعة سلاح نووى فلن يكون ذنبها، بل ذنب من دفعها»، ورغم استدراكه بالقول إن بلاده «لا تنوى تطوير سلاح نووى ولا خطة لديها بهذا الشأن» فإن الخارجية الأمريكية وصفت التصريحات بأنها "قلقة للغاية". أما وزير الخارجية محمد جواد ظريف فقد اعتبر أن قلق أوروبا من برنامج إيران النووى «نفاق وازدواجية فى المعايير»، موضحاً أن «إسرائيل تقوم بتوسيع مفاعل ديمونا النووى هذه الأيام من دون أن نشهد أى قلق من الجانب الأوروبى».
مؤشرات للخطر، قد تكون مجرد أوراق ضغط لدفع الأوروبيين والأمريكيين للأخذ بوجهات النظر الإيرانية، وقد تكون مؤشرات لنوايا إيرانية تستشعر الخطر الذى يتهددها وتدرك خلفيات ونوايا اصطيادها فى مستنقع مفاوضات غير مأمون، من هنا يعتبر القرار الإيرانى اليوم بخصوص الانسحاب أو البقاء فى البروتوكول الإضافى، وردود الفعل الأمريكية والأوروبية عليه خطوة مهمة لكشف النوايا المستترة لكل الأطراف.