Close ad
22-2-2021 | 15:33
الأهرام اليومي نقلاً عن

يعود الروائي البرازيلي الشهير جورج أمادو في روايته «ميتتان لرجل واحد» لتلك الروح الساخرة التي تعيد تشكيل العالم، فتلك الحياة الرتيبة التي عاشها الموظف المثالي (جواكيم) صارت عبئا عليه، فأراد أن يتحرر قليلا، وبالأحرى أراد أن يحرر روحه السجين في عالم يعاين العادي والمألوف باعتباره خلاقًا ومبهرًا، ولذا يصير رجلًا آخر، اسمه (كينكاس هدير الماء)، ويقضي على كل ما تبقى من سيرة للرجل الطيب، الذي لا يعرف شيئا في هذا العالم سوى مكتبه، ومظهره، وعالمه الجاهز المحدود، لتبدو الشخصية الروائية موزعة بين مسارين، وتتداخل الفانتازيا مع الواقع، وتتقاطع الأزمنة داخل النص على نحو فني يجيد أمادو الخبير بالفن والرواية والحياة صُنعه، فالطفل الذي خرج ذات يوم من حقول الكاكاو قادر على سبك نصه وحبكه بروية، وسخرية، وعمق.

ثمة حكايتان مركزيتان هنا، تمثلان سيرة متنقلة تصاحب البطل (جواكيم)، والمروي عنه المركزي في الرواية، وتعبران عن رؤيتين متمايزتين للعالم، فعلى الرغم من أن ثمة جسدا واحدا مسجى في التابوت، فإن ثمة تصورين مختلفين عنه، يتصلان بكيفية موت البطل، الذي يبدو هنا نموذجا لذلك البطل الإشكالي الذي ليس سلبيا وليس إيجابيا، والذي يحمل الشيء ونقيضه، فتبدو الطريقة الأولى ملائكية وادعة مثل شخصية جواكيم النمطية السابقة، بينما تحيل الطريقة الثانية إلى شخصية جديدة أقرب لحياة الصعلكة والتشرد التي عاشها الموظف المثالي السابق بعد أن غادر حياته الهادئة، ليصبح قائد حياة الليل في بلدته البرازيلية باهيا، ويتحول من جواكيم إلى كينكاس هدير الماء.

وبين هذين التصورين تنفتح الدلالة على عشرات التصورات الدالة على عالم نسبي متغير يمكن أن يحوي صنوفا أخرى من البشر. هناك نمط ثالث يضاف إلى جواكيم، وهدير الماء، نمط كاره لكل شيء، غاضب دائما، يلهث خلف الشائعة، يعتقد في كونه ممثلا للحقيقة المطلقة، لا يختلف عن تصورات المتطرفين في اعتقادهم الجازم بأنهم يعرفون مراد الله، هذا النمط المحاط بأوهام عن الذات والمبالغة في قدراتها، والإحساس العارم بفوبيا الاضطهاد، وهوس المظلومية الفارغة.

ما أحمق أن يقف المرء وحيدا غاضبا ليلقي كل المارّين بالحجارة، وما أيسر من أن تلعن الظلام دائما دون أن تقترب لتوقد المصباح، إن اللغة المضمخة باليقين التي تنطلق من ثوابت لا كسر لها في ذهنية صاحبها هي أخطر ما يمكن أن يواجه أى أمة تسعى للحاق بالمستقبل. فاللغة ليست منطقا للتفكير فحسب، لكنها تعبير جلي عن رؤية العالم، وكلما تخفف الإنسان من أحكامه المطلقة وكلما رأى العالم ابنا للنسبية والتغير، وليس ابنا للجمود والثبات، صار أكثر قدرة على تأمل الأحوال والمصائر، واستشراف المآلات عبر المعطيات الموضوعية وليس عبر التنبؤ الخادع.

إن مشكلة كبيرة تواجه خطابنا اليومي تتمثل في التعميم الساذج واضطراب المعنى، عبر الرفض المطلق لكل شيء، وإدانة الجميع، وهذه اللغة القديمة المعبرة عن وعي أحادي في رؤية العالم، تعد تمثيلا لعشوائية التفكير، ووقوعه في فخ المطلق حتى ولو بطريقة لا إرادية.

يقتل الانفعال الموضوعية، مثلما يُعمي الغضب البصيرة. واستسهال الأحكام المجانية في النظر إلى الواقع والعالم والأشياء جريمة كبرى بحق العقل والتفكير النقدي الذي ينحو صوب المساءلة، والتأمل، والوعي العميق بالذات.

كلنا مدعوون لأن نكون أفرادا إيجابيين، والإيجابية ليست في أن يكون الإنسان الفرد قادرا على التأثير في محيطه الاجتماعي فحسب، ولكن أن تكون إيجابيا معناه أن تكون واقفا في خندق الحق والخير والجمال، أي في صف القيم الفلسفية الكبرى، أن تكون منحازا للمعنى، موقنا بأن على هذه الأرض ما يستحق أن يعاش، وأن ثقافة الحياة هي جوهر الفرح بالوجود الإنساني، وأن أفضل الأيام ليست ما كانت، وأن الذكرى ليست هي الفردوس الوحيد الذي يصادفنا، فللحياة شطآن متعددة، والزمن نفسه موصول ماضيه بحاضره، فلا تثبيت لأوهام الماضي واعتبارها الخير المطلق، فليس ثمة خير مطلق في الحقيقة ولا شر مطلق أيضا، وهذه النزعة الرومانتيكية ذات الحس المثالي ليست ابنة أوانها، فالحياة فيها كل شيء، والعالم ليس مثاليا ولم يكن، وما نراه إيجابيا سيظل مرهونا برؤيتنا نحن للعالم، ولذا فإن من مهام التفكير الإيجابي أن يحفز الإنسان على معانقة الحياة، واستيلاد الجمال من داخلها، وطرد الأحقاد والسخافات الصغيرة، ولن يتعزز الجمال داخل الإنسان، قبل أن تتعزز ثقته بنفسه، وإيمانه الحق بقدراته.

وبعد.. أن تكون إنسانًا إيجابيًا معناه أن تكون مبصرًا بحق، مغادرًا عماء العقل إلى بصيرة الوعي والروح، وفي هذا ستبدو المحبة لازمة، وحتمية، فهي معينة على احتمال الحياة وقسوتها، على مغالبة الألم، والوحشة، وهي سر من أسرار ثقافة الحياة، ورهانها الرابح في مواجهة التعصب، والعتامة، والظلام، واستلهام قيم التسامح، والتقدم، والاستنارة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
صناعة الجمال

هل نصنع الجمال أم نتلمسه؟ هل الجمال عابر أم مقيم؟ معنى أبدي مطلق أم معنى نسبي متغير؟