Close ad

سوء النيات من سوء الفِطَن..!

2-2-2021 | 13:10
الأهرام اليومي نقلاً عن

مال برأسه يمْنةً ويسْرة إعجابًا واستحسانًا فمصمص شفتيه ثم همس: يا سلاااااام.. تحفة واللهِ !.. كان يقرأ شيئًا على شاشة موبايله ساهيًا عن جذوة اللهب الفحمية النائمة فى حضن حجر شيشته تكاد نارها تنطق. أوشك الفضول يقتل صاحبه الجالس بجواره فسارع إلى السؤال: ماذا قرأت فأسعدك هكذا يا أبا الكباتن؟.. تمتم هو: قرأتُ نصيحة الذئب للثعلب أرسلها لى صديقنا (ع) على ( الفيس). صدِّقنى هى نصيحة بمليون جنيه. لقد قال الذئب للثعلب: إيّاك أن تثق أبدًا فى أحد أيًّا كان!.. عندئذٍ صاح الصاحب صيحته الكبرى: إس فُخْصْ على دى نصيحة.. فاحتدم النقاش.

ألقى رواد المقهى خراطيم شيشاتهم مفتونين لمتابعة الجدل الزاعق. قال هو: يا عزيزى .. ذلك هو مفتاح الشخصية المصرية هذه الأيام وفى كل الأيام؛ عدم الثقة فى الآخرين.. بل ما أظنه إلّا مفتاح الشخصية الإنسانية فى كل زمان ومكان. إن السؤال المحورى فى الوجود مُذ خلق الله تعالى الأرض ومن عليها هو: هل أثق فيمن هم حولى 100%.. أم (نُص نُص).. أم لا أثق فيهم على الإطلاق؟ فكانت الإجابة الحصيفة بعد طول عناء وبحث هى ما قاله الذئب للثعلب: لا تثق فى أحد!

فغر صاحبه فمه ثم غمغم: يعنى إيه؟.. أتريدنى أن أشك فى كل الناس حتى فيكَ أنت؟.. رد هو: نعم وألف نعم.. وسأشرحها لك: ابدأ بالشك إلى أن يثبت العكس. افترض منذ البداية أن الآخر كاذب مخادع يسعى لتلبيسك العِمّة.. وهنالك سوف تتنبّه لألاعيبه.. وسيدرك هو نباهتك فيخشاك ويعاملك باحترام ويفكر ألف مرة قبل محاولة استهبالك. ساد الصمت المتوتر جو المقهى وتكهربت أسلاك عقول رواده فانتهز هو فرصة السرحان المُدوِّخ فأطلق قذيفته.. قال: يا أخانا.. ألم تسمع العرب القدامى يكررون فى أشعارهم: (إن سوء الظن من حُسنِ الفِطَن).. صحصح يا عم الحاج!

استفاق الصاحب من دهشته بسرعة فهمس: لكننا بهذا الشكل سوف تتحول حياتنا إلى جحيم لا يطاق ولن نحتملها.. فعاجله هو قائلا: على العكس تمامًا.. بل سوف تتحول إلى ساحة رحبة من الفهم والنضوج والذكاء الحاد والاحترام المتبادل.. واسمح لى بأن أسألك سؤالا: ألم يقل أهالينا فى الريف منذ بدء الخليقة: (إن كونتو اخوات اتحاسبوا)؟.. ألا يحمل هذا القول فى طياته أطياف شك من الأخ فى أخيه وافتراضا بأنه قد يخدعه؟.. ثم ألا يكون الحساب الصارم المنضبط بين الناس بداية لثقتهم فى بعضهم البعض فتصبح حياتهم أأمن وأجمل؟

نظر الصاحب إلى السقف فبدا وكأنه يحادث نفسه: لا أدرى.. أشعر بأن منطقك هذا سيجلب على النفس شقاءها لأننى ببساطة سأسير بالطرقات بين الناس وعيناى فى وسط رأسى.. وساعتها لن أهنأ بطعام ولا بشراب ولا بلحظة حب واحدة.. وقد لا أنام. أجاب هو مبتسما فى سخرية: بل غفلتك هى التى ستحرم عينيك النوم .. وحتى إن نِمْتَ فستنام على خديعة وتصحو على خديعة أكبر.. ومع ذلك فأنا لا أنصحك بكراهية الآخرين والسعى لخيانتهم حماية لنفسك إنما فقط أريدك أن تكون حذرا بعض الشىء.. ما المشكلة؟

فجأة دوّى صوت من خلفهما ضاحكا.. قال: المشكلة يا أستاذنا النابه أن صاحبك لو التزم بنصحك المشئوم هذا فسيظل يُلدغ ويُلدغ حتى يموت من كثرة اللدغ لأن الآخرين هم أيضا سوف يعاملونه بنفس منطقه التخوينى.. ولن يثقوا فيه.. وسوف يُخوِّنونه بشكل متواصل.. ومن ثم سيحرمونه من أى عطاء.. وسيكتشف أن الطيبة وسلامة النية وتسليم الأمر لله هى طوق النجاة والسبيل إلى راحة البال مهما تكن الخسائر بينما الشك المتواصل هو أساس الشقاء والحزن الدائميْن.. وإن كنتَ أنت تحدثتَ عن العرب الأقدمين فدعنى أُذكّرك بأنهم هم القائلون أيضا: (إنما يُؤتَى الحَذِرُ من مَأمنه).. فاتقِ الله فى صاحبك المسكين هذا!

ابتسم الصاحب والتفت إلى المتحدث الغريب فشكره.. ثم قال لصاحبه: أنت يا أخى كاره للدنيا ولنفسك وللناس جميعا فما ذنبى أنا؟.. أطلق هو ضحكة مجلجلة.. قال: ذنبك على جنبك.. وعلى كل حال أنا موجود لمد يد العون كلما خانك الخائنون أو غَشّك الغشاشون.. وأرجوك لا تتسرع فى الحكم على كلامى هذا واجلس مع نفسك فى هدوء واسألها ثم احسبها بالعقل: هل مقدار ما تعرضت له من الخداع فى عمرك كله أكبر أم مقدار لحظات الوفاء النادرة؟.. سأله الصاحب فى ضجر: ولِمَ ابتسامك الآن؟.. أجاب: أبدا.. تذكرت قولا لنجيب محفوظ على لسان عبد ربه التائه.. قال: (بعض أكاذيب الحياة تنفجر صدقًا!).عندئذٍ انتفض المتحدث من الخلف مخاطبًا الصاحب: خَلِّك ماشيا وراء تائهك هذا إلى أن تلبس بالحيط.. ادفع لى الحساب يا حِدِق.. ثم فر هاربا!.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
ولماذا لا نهزم البايرن ..؟!

نظر فرأى كتفي صاحبه تصعدان ثم تهبطان وجسده يهتز اهتزازات منتظمة وأنفاسه تتمدد فتأخذ سطح الكمامة إلى الخارج ثم الداخل كمن يضحك. بالفعل كان يضحك. ملكته الغيرة

كورونا التى علمتنا ( الأدب)!

( آآآآآلوه).. جاءه صوت صاحبه، على غير عادته، واهنا خافتا مهزوما، كأنما الصوت صوت غريق موشك على الهلاك. مالك يا عمّ كفى الله الشر؟.. هكذا سأل هو بنبرة لا