Close ad

إلا.. الطابق السادس في «الأهرام» (١٢)

13-1-2021 | 00:14

الإيمان الخفي بين الشعراوي وإدريس:

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

قل هو الرقي في الجدل، وكل شيء قائم على الجدل في ذاته، وما أجمله إذا تم بالحسنى..

قل هو السمو في الحوار، لاسيما في المساحة المتحركة بين الخلاف والاختلاف، وكلاهما لا يفسد للود قضية شريطة أن يكون ثمة رأي وثمة ود..

قل هو التجاذب بين القيم التي تثيرها أطروحات القمم، بعيدًا عن التنافر الذي هو للتجاذب، والتجاذب للتنافر، كقانون من القوانين الكونية.

قل ما تشاء عن (قضية الأحاديث الأربعة) لشيخنا العظيم توفيق الحكيم، تلك التي نشرها منجمة في «الأهرام» في أول مارس ١٩٨٣ وأثارت عاصفة عنيفة من الغضب اللفظي والغضب الموضوعي، بغض النظر عن الهوجائية من الواقعية، وانطلقت من هذا المكان، ولا تزال بصماتها كأنها ماثلة أمام عيني كاتب هذه السطور الذي كان شاهدًا وشهيدًا على وقائع تلك المعركة الفكرية الشرسة، بصفتي صحفيًا في «الأخبار» وصديقًا مقربًا من أطراف تلك المعركة «الأهرامية».

وقد ظلت مستعرة و«صفيت» نارها بين المفكر المثير للجدل الذي يخل بالتوازن ويعصف كثيرا بالنظام الثابت للأشياء «يوسف إدريس» وبين العالم الجليل الشيخ «محمد متولي الشعراوي» الذي كان في عنفوانه الجماهيري عبر برنامجه التليفزيوني الأشهر «خواطري حول القرآن الكريم» الذي كان يستقطب شرائح المجتمع وأطيافه.

وقد طرحت في المشهدين السابقين مناوشات الدكتور يوسف ادريس، وخطابه الى الشيخ الشعراوي، وبعض ردوده، وهنا البعض الآخر.

على أن الجدير بالذكر أن هذه الجدلية بين العملاقين، قد تجاوزت الإطار الضيق، لتثير قضايا فكرية لا تزال تؤرق المجتمع، بل وتؤزه أزَّا، ويبدو أنه ستظل تنشب أظافرها...

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

ومن الأمور التي أشعلت الصراع الفكري ما قاله يوسف إدريس عن «الإيمان الخفي السامي» والذي يفضله، ويبرره بقوله «الإيمان الذي يدفع الفلاح الفقير بعد أن ينهي يومه الشاق أن يذهب إلى أقرب مُصلًّى ويغتسل ويصلي العصر، يا لروعة هذه الأرواح الفقيرة المظهر، الغنية الروح! تلمحها مبعثرة كالنقط البيضاء في ريفنا الواسع إذا ما جبته عصرًا راكعة تناجي مولاها وتشكره على نعمائه بلا جعجعة ولا مظاهرة، يعبد الناس ربهم في تلقائية ودون إرهاب أو إرعاب، ونحن في المدينة هنا وعلى شاشات التليفزيون نعبد الله في جلبة وبتعقيد يحوِّل إسلامنا السمح إلى ألغاز يحار في فهمها العقل، والإسلام دين الفطرة، بسيط بساطة العلاقة بين العبد وخالقه، يكفي أن تقول الشهادة وأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت. ومن حر وشريف مالك يكفي أن تفعل هذا علنًا لكي تكون مسلمًا لا يجرؤ كائن من كان أن يَمسَّكَ بكلمة؛ ولهذا فإن الارتداد عن الإيمان مسألة أخطر بكثير من أن يُحكم بها على قارعة الطريق.

وكان تعقيب الشيخ الشعراوي كالتالي: «لا يوجد إيمان خفي سامٍ؛ لأن الإيمان أن تشهد وأن تعلن، وأن تنفذ مطلوب الإيمان، وإذا كان إيمانك خفيًّا مستورًا، فلماذا تهاج إذا شممت من رائحة كلام تفهم أنه يخرجك منه؟ اقرأ في كتاب الله إن شئت {وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وها أنت تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أخرجها عن الخفاء السامي، ونظرًا لأنها سهلة لا تكلف شيئًا فقد اكتفى بها قوم لتحمل عنهم أوزار ترك العمل الذي هو حق هذه الشهادة.

وعن استشهاد يوسف إدريس بما ورد في مقاله بالأهرام عن الإمام محمد عبده من «أنه إذا جاءك إنسان يقول وكان له ٩٩ وجهًا وكان هناك وجه واحد يُحمَل على أنه إيمان، فمن الواجب أن يُؤخَذ بهذا الوجه» قال الشعراوي: فقد أخذنا والله بهذا الوجه كثيرًا في مقابلة كثير من المفكرين، وربما كان هذا الأخذ مدعاة لهم أن يوغلوا فيدخلوا الفكر البشري في غير مجاله مما أحكم الله نصه ولم يدع فيه رأيًا لمجتهد».

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

وأتذكر ما ورد عن الدين والتديُّن فقد أوضح الشيخ الجليل:«أحب أن أبيِّن للناس جميعًا في مناسبة التعقيب أنه يجب أن يفرق بين تدين ودين؛ فالتدين رتابة عمل إيماني يُطلَب مِن كل مَن آمن، وعلم الدين شيء آخر فوق هذا، فمطلوب من صاحبه أن يتدين أولًا كما يتدين الناس، ويطلب منه ثانيًا وقد انحاز إلى هذا العمل أن يعلم من دين الله ما يرجع إليه الناس في أمورهم إن عرضت لهم أمور قد لا تعرض لكثير طوال حياتهم، فما كان الله ليكلف كل مؤمن به أن يعلم كل منهجه، عليه أن يعلم ما يتطلبه دينه من عمل رتيب في الحياة، فإن جدَّت له قضية فعليه أن يسأل فيها أهل الذكر».

وأما قضية الحضارة الإسلامية وتأخر المسلمين التي أثارها سويف إدريس، وما قامت به أوروبا من تلقُّف للحضارة الإسلامية وطوَّرتها حتى وصلت بها إلى عصر النهضة، فما تأخُّر المسلمين لما يقولون، وإنما تأخَّر المسلمون لأنهم لم يكونوا على مستوى الإسلام، فاكتفوا به أسماء وجغرافيا، والدليل على ذلك أن المسلمين حين كانوا مسلمين بحق قادوا الدنيا، حضارة متزنة، ومدنية وَرِعة، وتقدُّمًا خاشعًا، فَلْنفكر لمَ إذن؟!

وعن باب الاجتهاد قال الشيخ الشعراوي ليوسف إدريس: لم يحدث يا أخي إغلاق لباب الاجتهاد، وإن كان قد أُغلِق فلأنه لم يوجد أناس سَمَوا إلى مرتبة الاجتهاد. ثم ما هو الاجتهاد الذي أُغلِق، أهو الاجتهاد في العمل، أو في مادية الكون، أو في الاستنباط من ظواهر الطبيعة، أم هو الاجتهاد الذي كان يحب كثير من الناس أن يحرِّرهم من حكم الله ليبيح الاختلاط ويبيح التبرُّج، ويبيح الربا بدعوى أن العصر يستلزم ذلك، فيجب على المجتهد أن ينزل إلى مستويات العصر، كأن العصر هو المُشرِّع؛ إذن فكلما حتَّم العصر شيئًا من التحلُّل أنزلنا حكم الله بواسطة اجتهادكم لندلِّل على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان كما يتشدَّق بذلك السطحيون، لذا يجب ألَّا تدخلوا من باب أن الإسلام منَعَ حضارة؛ فالذي منع الحضارة هو أنه لا إسلام. لقد كان من الواجب أن يسأل نفسه عن التقدُّم المذهل الذي وصلت إليه أوروبا، وهل عفاها هذا التقدُّم مما تعاني؟! إنني مستأمنك على الجواب.

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

أمَّا التصدِّي للمتطرفين الذي أراد يوسف ادريس من الشيخ الشعراوي أن يهتم به كواحد من الأولويات للعالم المسلم فرد بقوله: لم ننتظرك لتقول، لقد قلنا ولكن يبدو أنكم تكرهون أن تسمعوا، ولقد كنت أتمنى أن أسأل د. يوسف إدريس إذا كان المتطرفون في الدين قد عُقِدت لهم ندوات لتصحيح مفهوم الدين، أَمَا كان الأولى أن يجد المتطرفون ضد الدين مثلَ هذه الندوات حتى نكون قد عدلنا في الأمة الواحدة بميزان واحد؟!

أمَّا قول الدكتور يوسف إدريس من أنني أصبحت على رأسِ مَن يشكو منهم، فأقول له: إن أحدًا لن يستمع إليك، ولست من الحمق الإيماني بهذه المناسبة، ولكنني بعون الله سأظل لله وحده وَلْيكره مَن يكره.

لقد حاولت أن تجد موضعًا للتهمة كما تقول، فما دامت التهمة غير موجودة فكيف تجد لها موضوعًا، إنها تهمة ارتميتَ أنت في أحضانها فلا تسأل مَن لم يقصد، وإنما سَلْ مَن قصد!.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة