الفرح حالة إنسانية يتطلع إليها جميع البشر في كل مكان، وكل زمان والفرح كلمة أساسية في الكتاب المقدس، حتى إن كلمة «إنجيل» تعنى «الأخبار المفرحة»، كما أن الفرح يعتبر وصية إنجيلية «افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضًا افرحوا» (رسالة فيلبى 4:4) والوصية بهذه الصورة «كل حين» تعنى الاستمرارية والديمومة في حياة الإنسان، تمامًا مثل وصية الصلاة «صلوا كل حين»، وأيضًا وصية الشكر: «شاكرين الله كل حين». ويعتبر هذا الثلاثي: الفرح والصلاة والشكر، هو عماد الحياة الإنسانية الناجحة.
وتوجد كلمات مفتاحية تشرح بالرمز والمعنى الموضوعات الكبرى في الكتاب المقدس مثل موضوع الفرح. ومن هذه الكلمات المفتاحية كلمة عصير العنب أو الخمر التى ترمز إلى معنى الفرح الخاص أو العام. فمثلا في أول معجزة صنعها السيد المسيح، كانت في عرش قانا الجليل، في فلسطين، وكانت التقاليد اليهودية تشمل طقوس العرس على مدى أسبوع، تبدأ يوم الأربعاء إلى الجمعة ثم السبت راحة، ثم من الأحد حتى الأربعاء ليتم الطقس الديني.
وفكرة الاحتفال لمدة أسبوع، حتى يتسنى لأهل المدينة أو القرى أن يجاملوا ويهنئوا العروسين بالحضور، وكان على أهل العروسين تقديم مشروب الضيافة، وهو عصير العنب، والذى يطلق عليه تجاوزًا «الخمر»، وحدث في ذلك العرس والذى حضره السيد المسيح والقديسة مريم العذراء والدته أن فرغ مشروب الضيافة فجأة، وكان هذا يسبب إحراجًا كبيرًا إلى أصحاب العرس، ولذلك ذهبت العذراء إلى السيد المسيح قائلة: ليس لهم خمر؟! (إنجيل يوحنا 2 : 3)، وتحكى المعجزة أن أجران الماء الموجودة حولها السيد المسيح إلى عصير العنب أو الخمر ليشرب الجميع ويفرحوا ويمضي العرس بلا إحراج أو تقصير.
وعبارة «ليس لهم خمر» تعنى «ليس لهم فرح» وعلى المستوى الرمزى والروحي، فالعبارة التى قالتها القديسة مريم العذراء: ليس لهم خمر - ليس لهم فرح، كانت تقصد أن حالة الفرح كانت غائبة عن أجيال العهد القديم قبل المسيح، حيث كان الفردوس ُمغلقًا، وليس أمام البشر بعد رحلة الحياة إلا طريق الجحيم، كما كان الاحتياج دائمًا إلى تقديم الذبائح الحيوانية تكفيرًا عن خطايا الناس وتكرار هذا الفعل دائمًا دون انقطاع.
وجاء ميلاد السيد المسيح إعلانًا ببدء عصر الفرح أو دخول الفرح إلى العالم؛ بحسب نشيد الملائكة وقت الميلاد: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة (إنجيل لوقا 2 : 14) وصارت المسيحية والفرح صنوين لا يفترقان حتى في أشد اللحظات ألمًا أو ظلامًا، كما نقرأ في سير الشهداء في ساحات التعذيب، حيث لم يفارقهم الفرح أو السلام الداخلي القلبي، والخارجى على وجوههم.
فكأن الزمان انقسم إلى ما قبل وما بعد ميلاد المسيح، وكذلك حالة الفرح الغائبة قبل الميلاد، والحاضرة والدائمة بعد الميلاد وهو ما سوف نلاحظه في أحداث وشخصيات عيد الميلاد المجيد، وقد اخترت لكم خمسة مشاهد رئيسية تحكي عن هذا الفرح وأنواعه:
المشهد الأول: القديسة مريم العذراء التي أظهرت فرحها وبهجتها وقت مقابلة القديسة اليصابات بعد بشارة الملاك جبرائيل لها (إنجيل لوقا 1 : 26- 55)؛ حيث أنشدت أنشودة فرح بدأتها بقولها: «تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي» (إنجيل لوقا 1 : 47)، وهكذا تعلن لنا فرح نوال الخلاص بميلاد السيد المسيح، وتعبر في فرحة غامرة عن نوالها فرحًا داخليًا روحيًا بالتجسد الإلهي، حيث أتى السيد المسيح من أجل خلاص كل البشر، وأنها ستصير واحدة من ملايين الملايين في التمتع بهذا الخلاص الثمين.
المشهد الثاني: يوسف النجار خطيب القديسة مريم العذراء ذلك الرجل المتقدم في الأيام، والذي اختارته العناية الإلهية ليكون حارس سر التجسد الإلهى في مسئولية رفيعة المستوى، وفي طاعة فائقة للرسائل السماوية التي أرسلتها الملائكة إليه، فيحرس العذراء في حملها وفي ولادتها وفي الهروب إلى مصر ثم العودة بعد سنوات، وكل هذا يتحمل المشقة والمسئولية دون أدنى تذمر أو رفض أو تقصير إنه «فرح المسئولية» التي يؤديها الإنسان عندما يكون أمينًا مخلصًا، ونراه في كل هذه المراحل.. هادئًا مسالمًا طائعًا وأيضًا حكيمًا في كل خطواته.
المشهد الثالث: الملائكة وفرح التسبيح، لقد تهللت السماء وقت ميلاد السيد المسيح واجتمعت الملائكة في جوقات كبيرة تنشد نشيدًا سماويًا فيه تمجيد الله العلي خالق الخليقة وموجد الحياة، وكأن الملائكة تعلم البشر عن أرقى صور العبارة وهي تمجيد الله المبارك وتعظيم اسمه العظيم. ومن هذه الكلمات الملائكية استمدت الكنيسة روح العبادة الكنسية في مقدمة الصلوات وفي ختامها. إن التسبيح هو أعلى صور للصلوات التي يقدمها الإنسان حبًا خالصًا لله. وكما نقول في إحدى تسابيح شهر كيهك: «قلبي ولساني يسبحان الثالوث أيها الثالوث القدوس ارحمنا».
المشهد الرابع: الرعاة البسطاء وكانوا في البادية يحرسون القطعان بأمانة وقد ظهر لهم الملاك قائلًا: «لا تخافوا. فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب....» (انجيل لوقا 2 : 10).
هنا يتجلى «فرح البساطة» في هؤلاء الرعاة الذين اختارهم الله ليكونوا أول من يعرف ميلاد السيد المسيح؛ بسبب حياتهم البسيطة والأمينة، حيث انطلقوا مسرعين إلى مذود بيت لحم، ويكونون أول الزائرين، وينالون هذه البركة العظيمة رغم أنهم بحسب نظرة الناس لهم، إنهم يعيشون على الهامش وليس لهم حق التصويت؛ لأنه ليس لهم عنوان ثابت، فهم ُرحل من مكان إلى مكان، كما أن حياتهم بسيطة للغاية؛ سواء مأكلهم أو ملبسهم أو عيشتهم لكنهم في حالة رضا وشبع وفرح وسلام.
المشهد الخامس: مجوس المشرق وهم علماء فلك وذوو ثراء واعتبار في مجتمعاتهم، وقد أتوا من المشرق في رحلة طويلة وشاقة حاملين هداياهم المُعبرة، هذا هو «فرح المشاركة»، لقد اشترك الغرباء عن رعوية بني إسرائيل، في فرحة الميلاد وجاءوا باحثين عن الطفل ملك اليهود، لأنهم علموا ذلك من دراسة النجوم والكواكب، والنجم الذي ظهر لهم ومكتوب «ما رأوا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جداً»، (إنجيل متى 2 : 10)، وقدموا هدايا المشاركة ذهبًا ولبانًا ومرًا، ثم عادوا إلى بلادهم في هدوء وسلام وفرح قلب.
إننا نفرح بالميلاد المجيد رغم أن العالم يمر منذ العام الماضي بالوباء الواسع الانتشار وضحاياه بالملايين، لكننا نشكر الله ونصلي أن يرحمنا جميعًا ويرفع هذا الوباء عن العالم أجمع وعن بلادنا المحبوبة لنعيش في صحة وسلام.
نهنئ السيد رئيس الجمهورية الرئيس عبدالفتاح السيسي وكل المسئولين في بلادنا مصر، كما نهنئ رجال القوات المسلحة ورجال الشرطة؛ حيث يقومون بأدوار الشجاعة والبسالة والأمان لنا جميعًا، كما نهنئ القطاعات الصحية من أطباء وتمريض وفنيين ونشكرهم على الدور العظيم الذى يقومون به في ظل انتشار الوباء ونصلي أن يحفظهم الله بكل سلام وسلامة.
عام سعيد وميلاد مجيد لجميعكم