Close ad

التركية العثمانية وأنهار الدماء! (19)

4-1-2021 | 10:45
الأهرام اليومي نقلاً عن

مع إعلان تركيا التعبئة العامة للدخول فى غمار الحرب العالمية الأولى التى كانت رحاها قد بدأت عام 1914، مثلت هذه التعبئة ستارًا لتتوارى خلفه العمليات التى بدأت على نطاق واسع لمصادرة أملاك الأرمن، العقارية والمنقولة، فصودرت الأراضى والدور، وامتدت إلى المنقول تحت ستار سحب السلاح الذى كان بعض الأرمن قد اشتروه بثمن باهظ من جيرانهم الأتراك، ومع بدايات عام 1915، تعمدت الإدارة التركية إلحاق الجنود الأرمن الموجودين بالجيش التركى، وكذا من يتم تجنيدهم، بوحدات سلاح المهندسين الذى يعمل غالبًا دون سلاح لضمان إضعاف الأرمن وتجريدهم من أى سلاح لمقاومة عمليات الإبادة المزمع ارتكابها فيهم، وصار الأرمن فى أشد حالات الضعف، ولم يعد يوجد تقريبًا إلاَّ النساء والأطفال والعجائز المجردون من أى وسيلة للدفاع عن أنفسهم، وسرعان ما تمت أيضاً تنحية النخبة السياسية للأرمن التى وقفت بجوار ثورة تركيا الفتاة ودعمتها فنحيت جانبًا، وصودرت الجريدة الخاصة بحزب الطشناق أكبر الأحزاب الأرمينية.

وفى الرابع والعشرين من أبريل (1915)، قامت الحكومة التركية تحت جُنح الليل بالقبض على كل الشخصيات الأرمينية ذات الوزن، وألقت بهم فى السجون، لحين ترحيلهم بحيث لا يبقى إلاَّ القليلون على قيد الحياة. هذا وبرغم الستار الذى ضربته الحكومة التركية العثمانية على هذه الإجراءات، بقى شهود عيان على ما يجرى، منهم الملازم ستانج الضابط الألمانى المتمركز فى أرضروم فقال فى شهادته (أريك ـ العدد 63 ـ ديسمبر 2015 ص3): بدأت عملية طرد الأرمن حوالى منتصف شهر مايو. أصدر القائمقام كامل باشا الأوامر بتفريغ القرى الأرمينية الواقعة شرق أرضروم، وهى الأوامر التى نفَّذها المسئولون الأتراك بكثير من العنف. تم طرد الناس من منازلهم ومزارعهم بعد منحهم مهلة قصيرة جدًا.

لم تترك الجندرمة لمعظم الناس الوقت حتى لحمل الضرورى من منقولاتهم! أما الممتلكات المتروكة وتلك التى حملها أصحابها معهم ـ فقد نُهبت من أصحابها بواسطة حُراسهم من الجندرمة. ويمضى الضابط الألماني ستانج ليقول فى شهادته إنه فى إرزنجان كان هناك أيضًا اثنتان من الممرضات الألمانيات حضرتا استعدادات الترحيل..

لم يكن هناك أمام السكان الأرمن فى إرزنجان سوى بضعة أيام من أجل بيع ممتلكاتهم. وقبل الرحيل كان عليهم تسليم مفاتيح منازلهم للسلطات. وقد بدأت القافلة الأولى مسيرتها يوم 7 يونيو،، وكانت تتكوَّن بشكل رئيسى من أناس ميسورى الحال فى مقدورهم تأجير العربات، وعلى الأرجح أنهم تمكنوا من بلوغ خربوط، المحطة الأولى لمسيرتهم. وفى أيام 8 و9 و10 يونيو، انطلق مزيد من القوافل، وهى تضم فى المجمل من عشرين إلى خمسة وعشرين ألف شخص. وسرعان ما تناثرت الأخبار عن هجوم الأكراد على القوافل الخالية من أي حماية وقامت بنهبها. وقد أكدت لنا طباختنا التركية صحة هذا الخبر.

وقصت علينا والدموع فى عينيها كيف أساء الأكراد معاملة النساء وقاموا بقتلهن وإلقاء أطفالهن فى الفرات.

وفى 11 يونيو، تم إرسال قوات نظامية من أجل عقاب الأكراد. وبدلاً من القيام بالمهمة، قامت تلك القوات بذبح الجماعة الأرمينية البائسة التى تفتقر إلى الحماية وتتألف بشكل رئيسى من النساء والأطفال. ومن أفواه الجنود الأتراك الذين كانوا هناك، سمعنا وعرفنا كيف كانت الأمهات الساجدات على ركبهن يتوسلن إليهم الرحمة، وكيف قام بعضهن بإلقاء أطفالهن بأنفسهن فى النهر. أصابنا الرعب ونحن نتساءل: كيف تُطلقون النار على النساء والأطفال؟ وكان الرد: ماذا تُريدون؟ إنها الأوامر.

ولم تكن هذه المنطقة هى الوحيدة المشهود على ما يجرى فيها، ولا كان الضابط ستانج هو شاهد العيان الوحيد على هذه المآسى التى تنفطر لها القلوب. فعلى ضفاف البحر الأسود، طرابيزون ـ شهد السيد أوسكار س. هايزر قنصل الولايات المتحدة على عمليات ترحيل الأرمن تحت عنوان المشتبه فيهم ـ وهو نص القانون الصادر 27 مايو 1915 الذى بموجبه أعطيت السلطات الكاملة للعسكريين. يقول القنصل الأمريكى: فى يوم السبت 26 يونيو، صدرت الأوامر الخاصة بترحيل الأرمن وجاب المنادون الشوارع معلنين عنها.

وفى يوم الخميس الأول من يوليو، عجت الشوارع بالجندرمة والسناكى على أفواه بنادقهم لتبدأ عملية طرد الأرمن من منازلهم، ويتم تجميع مجموعات من الرجال والنساء والأطفال حاملين القفف والحقائب على ظهورهم على طريق صغير فرعى بالقرب من القنصلية، حيث تدفعهم الجندرمة أمامها تحت تهديد السناكى والشمس الحارقة والغبار للسير صوب طريق أرضروم .

وخارج المدينة يتم توقيفهم ليُشكلوا مجموعة أخرى من حوالى ألفى شخص من أجل إرسالهم إلى نقطة أبعد من أرضروم.. ثلاث مجموعات مماثلة تم تشكيلها بلغ عددها ستة آلاف تم ترحيلهم خلال الأيام الثلاثة الأولى، مجموعات أخرى أصغر جمعت من طرابيزون وأنحائها تم ترحيلهم فى وقت لاحق ليصل عدد هؤلاء أيضًا إلى أربعة آلاف، كان بكاء النساء والأطفال وتوسلاتهم تُمزق القلوب. كانت القوافل تضم رجال دين وتجارا وصيارفة وقضاة وميكانيكية وحرفيين، ورجالا من كل الأوساط. كان ممنوعًا بالنسبة للأرمن من تاريخ 25 يونيو، تاريخ الإعلان، بيع أو شراء أى شىء. كما كان ممنوعًا أيضًا على أى شخص شراء أى شيء منهم.

كيف إذن يمكن لهم أن يحصلوا على ما هو ضرورى من أجل الرحلة؟ كثير من الناس الذين كانت لديهم ممتلكات يمكن بيعها، اضطروا للذهاب على الأقدام دون أن يحصلوا على أى شىء باستثناء فقط ما تمكنوا من حمله على عجل من منازلهم على ظهورهم. وعندما كان عليهم نتيجة الإنهاك التخلف عن الركب، كانوا يُطعنون بالخناجر ويُلقى بهم فى النهر لتحمل مياهه جثثهم إلى البحر أمام طرابيزون أو تظل الجثث عالقة على الصخور بمناطق النهر الضحلة لمدة عشرة أو اثنى عشر يومًا حيث تتعفن لتُصاب قلوب المسافرين المضطرين لسلوك هذا الطريق بالرعب. لقد تحدثتُ مع شهود عيان أكدوا رؤيتهم للكثير من الجثث العارية طافية على ضفاف النهر كجذوع الشجر خمسة عشر يومًا بعد الأحداث، وكانت الرائحة رهيبة!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (7)

من غير المعقول ألا يعرض الأستاذ العقاد، المعروف بموسوعية إطلاعه وموسوعية كتابته ومؤلفاته، ألا يعرض لهذه القضية البالغة الأهمية التى ازداد الاهتمام بها

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (6)

كتاب الشيخ علي عبدالرازق الإسلام وأصول الحكم لا يزال قبلة معظم الناس، بل صفوة المفكرين والكتاب، رغم مضي نحو قرن من الزمان على صدوره سنة 1925، ورغم كتابات

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام ! (5)

ليست هذه أول مرة أتصدى فيها للبحث وتكرار البحث والتصدى لفكرة الخلافة، وإثبات أنها لا تنبع من أصل من أصول الإسلام، وسبب معاودتى الحديث فى هذا الموضوع المهم،

الخلافة ليست من أصول الإسلام! (4)

معالم الحكم الواضحة في المبادئ قطعية الدلالة التي استنها القرآن الحكيم، أن الحكومة حكومة مدنية، بمعنى أن القائم على الأمر ليس ممثلاً لله عز وجل، ولا يملك

التركية العثمانية وأنهار الدماء! (10)

واجهت دولة الخلافة العلية التركية العثمانية، ثورة كبيرة باليونان التى نهضت تطلب استقلالها عن الدولة العلية، وتكبدت الجيوش العثمانية خسائر فادحة في كل المحاولات

الأكثر قراءة