جدلية الشعراوي ويوسف إدريس:
و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».
أشرت في المشهد السابق من هذه المشاهد العينية والشواهد الفؤادية مع عمالقة الفكر والإبداع والثقافة الذين استقطبهم الأهرام، وأسكنهم الطابق السادس، إلى الموقف الذي تجاوز فيه المبدع العظيم الدكتور يوسف إدريس، فمزج فيه الخاص إلى العام، وزاوج بين الذاتي والموضوعي، أتحدث عن موقفه من العالم الجليل الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي هاجم فيه توفيق الحكيم، وزكي نجيب محمود، ويوسف إدريس!
وأن هؤلاء الثلاثة متهمون بأن كتاباتهم فيها تضليل وإضلال، وأنهم يتجرأون على الدين، وأنهم مضللون (بكسر اللام)، ومما زاد النار اشتعالا أن إدريس أعلن مستنكرًا أن باستطاعة الشعراوي أن يصرع ثلاثة من «العمالقة» «وحده» أمام الرأي التليفزيوني العام!
و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».
القضية اتسعت دوائرها.. أخذ ورد.. جدل إيجابي.. آخر سلبي، غضب لفظي.. غضب موضوعي.. دين وديناميت.. ترقب مجتمعي.. وتداخلات إعلامية.. اقتحام سياسي يكاد يعصف بالفكر النقدي.. توظيف القضية توظيفًا سياسيًا.. نار حامية بجوار زيت قابل للاشتعال.. محاولة لإثارة النزغات الدينية... الدهاء يغالب البراءة.. المكر الحميد والمكر السيئ.. تصريحات باسم الأطراف المعنية تلقى جزافا من هنا وهناك.. تأويلات بعيدة عن محكم الآراء.. ندوات.. منابر .. لقاءات.. أحاديث ... وحقيقة كادت أن تضيع هباء منثورًا..!
اتخذت القضية بعدًا حادًا بين الشيخ الشعراوي والدكتور يوسف إدريس، وتجاوزت المعنى الضيق، لتمتد إلى إشكاليات فكرية دينية وسياسية.. وانضم إلى المعسكرين أقلام كبيرة من الطابق الخامس في الأهرام ومن المشتغلين بالفكر الديني في مؤسسات دينية وصحفية وثقافية.. أو يفترض ذلك!
و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».
شاهدتي بعيني يوسف إدريس وهو في قمة الغضب إزاء ثورة الكاتب ثروت أباظة جاره في المكتب بالطابق الخامس، واتهاماته التقليدية لكل من يخالفه في الرأي بالشيوعية - وكان هو الذي يرأس اتحاد الكتاب، وكان شيخنا توفيق الحكيم رئيسًا شرفيًا - لم يكن لثروت أباظة دخل مباشر في القضية الأساسية، سمعت يوسف إدريس يقول «هناك (....) هائج في «الأهرام» يتهم الناس بالشيوعية صباح مساء، ويتهم الشيوعيين بالإلحاد، هكذا على صفحات جريدة «الأهرام» المحترمة، لقد حوَّل بابه غير السياسي إلى منبر لمكافحة الشيوعية العالمية والمحلية، وبجهل شديد، وهذا في حد ذاته ظاهرة كانت لا بدَّ أن تستوقفنا وتجعلنا ندرك أن المسألة حملة سياسية موجهة من بعض الجهات وليست أي شيء آخر» وإن كان الكاتب ثروت أباظة قد تدخل بعد أن وصلت عاصفة الغضب ذراها، وقال إنه يعرض «عزومة» على الشعراوي ويوسف إدريس على (عدس أباظي) وكتب في «الأهرام» في مقاله بالصفحة الأدبية التي كان يشرف عليها طريقة طهي العدس الأباظي الذي سيتناوله الأطراف (!).
و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».
تبخرت الصراعات، واختفى «الأشخاص» الذين أشعلوا نارها المؤقت ومحاولة اللعب بالدين ممن كانوا ولا يزالون يتوهمون أنهم المتحدثون باسم السماء.. تطاير دخانهم في الهواء، وبقي الجوهري واستبقى الأصيل.. وهدأت الأمور لتصبح بين الشيخ الشعراوي والدكتور يوسف إدريس، وتنحو منحى فكريًا جديرًا بالتوقف والاستمرار أيضًا، إذ إن عملية «تكفير التفكير» لا تزال مستمرة بصورة أو بأخرى، وستظل مستعرة بشكل أو بآخر:
* إن هذه الفوضى في إطلاق أحكام الارتداد والكفر والزندقة علامة فقر فكري واضح، وأنها تفكير فقراء في العلم والمنطق، بل أقول تفكير فقراء إيمان، فالمؤمن الحق، المؤمن الغني بإيمانه هو الذي يحب لدينه أن يتسع وأن يدخل الناس فيه وأن يركنوا إلى حظيرته السمحة، أما أولئك الذين يريدون غلق نوافذ وأبواب ديننا الحنيف على ذواتهم الصغيرة بحيث يصبح تكفير الناس وطردهم من دار الإسلام أحب إليهم من دخول الناس زرافاتٍ ووُحْدانًا، أناس لا أقسو في الحكم عليهم ولكني أقول عنهم فقط إنهم فقراء إيمان وفقراء أرواح وفقراء عقل وتفكير.
* لم يحدث أبدًا أن ضُبط إنسان واحد في مصر، أعلن هو بنفسه أو حرض غيره على الكفر، وعلى كثرة القضايا التي تضبط سياسية، وجنائية، وآدابية، لم يحدث مرة واحدة أن ضُبطت قضية لإنسان، فما بالك كاتب كفر أو دعا إلى الكفر أو حرَّض عليه أو حتى ارتد، فما هو التفسير إذن لتلك المظاهرة الغريبة على صفحات الجرائد، وفي التنظيمات وفي الإذاعة والتليفزيون وكأن وباء الكفر قد اجتاح بلادنا، وكأن دين الله مهدد بالضياع في ديارنا، وكأن القيامة من كثرة عدد المرتدين والكافرين ستقوم غدًا؟.
* هل الحكم بالارتداد عن ديننا الحنيف مسألة من الممكن أن يصدرها أي مسلم على أي مسلم آخر هكذا، بحيث يصبح أي أمير في جماعة إسلامية له الحق أيضًا في إصدار نفس الحكم وبنفس الطريقة ودون محاكمة أو سؤال على أي مسلم آخر، ولو كان هذا المسلم عالمًا مثل فضيلة الشيخ المرحوم الذهبي؟
* حكاية الاتهام بالكفر أو الارتداد أصبحت «المودة» الشائعة في عصر التكفير الذي نعيش فيه هذه الأيام. وأصبح أبسط وأول رد يعنُّ لمتعصب أو متعاصب أو جاهل أن يرد به على أي مثير لقضية أو أي مناقش لأمر من أمور حياتنا أن يرد عليه بقوله أنت مرتد، أنت كافر والعياذ بالله. وهذه فوق أنها إغلاق ليس لباب الاجتهاد ولكن لباب التفكير نفسه، أي نوع من أنواع التفكير، فوق أنها كذلك ولأنها شاعت تمامًا وأصبحت سلاح إرهاب بشعًا في يد من يريدون إغلاق عقل وقلب هذه الأمة ليمكِّنوا أعداءها منها في النهاية، فوق أنها كذلك، فموقف كثير من علماء المسلمين منها أصبح واجبًا ملحًّا.
* إني أفضِّل ذلك الإيمان الخفي السامي، الإيمان الذي يدفع الفلاح الفقير بعد أن ينهي يومه الشاق أن يذهب إلى أقرب مُصلًّى ويغتسل ويصلي العصر، يا لروعة هذه الأرواح الفقيرة المظهر، الغنية الروح! تلمحها مبعثرة كالنقط البيضاء في ريفنا الواسع إذا ما جبته عصرًا راكعة تناجي مولاها وتشكره على نعمائه بلا جعجعة ولا مظاهرة، يعبد الناس ربهم في تلقائية ودون إرهاب أو إرعاب، ونحن في المدينة هنا وعلى شاشات التليفزيون نعبد الله في جلبة وبتعقيد يحوِّل إسلامنا السمح إلى ألغاز يحار في فهمها العقل، والإسلام دين الفطرة، بسيط بساطة العلاقة بين العبد وخالقه، يكفي أن تقول الشهادة وأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت. ومن حر وشريف مالك يكفي أن تفعل هذا علنًا لكي تكون مسلمًا لا يجرؤ كائن من كان أن يَمسَّكَ بكلمة؛ ولهذا فإن الارتداد عن الإيمان مسألة أخطر بكثير من أن يُحكم بها على قارعة الطريق.
و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».
ونتوقف في المشهد القادم مع رؤية العالم الجليل الشيخ محمد متولي الشعراوي، وهو يتجادل مع الكاتب المبدع يوسف إدريس..
إنه الفكر الراقي .. ذلك الذي نفتقر إليه في اللحظة الراهنة الغارقة بين فكر الفقر وفقر الفكر.. وإن كنا لا نعدم بين الحين والآخر لحظة إفاقة…!