خلال شهرى سبتمبر وأكتوبر الماضيين شهدت جامعة الدول العربية أزمة تعد الأولى من نوعها منذ تأسيس المنظمة الوحيدة التى تعبر عن الإرادة السياسية العربية عام 1945، فقد تخلت فلسطين فجأة عن رئاستها الدورة الحالية لمجلس الجامعة التى تنتهى فى مارس المقبل، وحسب النظام الابجدى المعمول به لاختيار الدولة التى تترأس المجلس عرضت الرئاسة على الدول التى تلى فلسطين ابجديا، لكن الاعتذارات توالت تباعا من قطر وجزر القمر والكويت ولبنان وليبيا (وهى آخر دولة فى الترتيب الهجائى) عن عدم قبول هذا المنصب، مما أوقع الأمانة العامة للجامعة فى مأزق كبير حتى تقدمت مصر ووافقت على الاستمرار فى رئاسة هذه الدورة حتى نهايتها.
اعتذار الدول الست عن عدم رئاسة مجلس الجامعة العربية الذى يعد الجهاز الرئيسى للجامعة، ويتكون من ممثلى الدول الأعضاء كافة، والمسئول عن وضع ومتابعة خطة العمل، يعكس مدى عمق الأزمة التى يشهدها العمل العربى المشترك وفى القلب منه الأداة الاساسية له وهى الجامعة العربية، بينما يمثل الموقف المصرى الحرص على التشبث بالمظلة العربية لقضايا المنطقة، وضرورة تماسك منظومة العمل العربى المشترك.
والحقيقة أن نظرة واحدة على خريطة الوطن العربى من المحيط إلى الخليج تكشف حجم الأزمات المتعددة التى تضرب الجسد العربى فى آن واحد، من السعى لتفكيك الدولة الوطنية إلى انتشار المجموعات الإرهابية والمرتزقة وصولا إلى نشر الفوضى وعدم الاستقرار وحتى عودة الاحتلال الاجنبى المباشر وغير المباشر، فالتدخلات الاجنبية أضحت عاملا اساسيا فى الواقع العربى، والمثال الأبرز ما يجرى فى ليبيا وسوريا والعراق واليمن ولبنان وغيرها، تدخلات إقليمية من دول الجوار العربى ودولية من القوى الكبرى، فى ظل غياب مشروع عربى متكامل يمثل إرادة سياسية واحدة، بل إن تعبير (الأمة العربية) نفسه لم يعد له معنى أو مجالا للاستخدام بعد إن تباينت الأهداف والوسائل والغايات وباعدت بين الرؤى المختلفة لكل دولة عربية.
ومع تطور الأوضاع المتسارع فى المنطقة والعالم بدأت تظهر بذور لمحاور إقليمية جديدة، تزيد من تفتت العرب ومن الأخطار المحدقة بالأمن القومى العربى، فإمارة قطر التى تصر على استخدام الوفرة المالية فى لعب أدوار أكبر من حجمها بكثير ولو على حساب المصالح العربية العليا، تتحالف مع تركيا لتوفير حاضنة سياسية وإعلامية ومالية للجماعات التكفيرية والمتطرفة والمرتزقة، واستخدامهم فى إثارة القلاقل والحرب بالوكالة واعمال العنف والإرهاب لتدمير الدولة الوطنية فى مناطق الأزمات العربية للسيطرة على الأوضاع هناك، وتقيم تركيا قاعدة عسكرية فى الدوحة للدفاع عن النظام القطرى مقابل مليارات الدولارات تضخها قطر لإنقاذ الاقتصاد التركى من الانهيار، وتستغل تركيا هذا الوضع لمزيد من التحالفات التى تعزز سياستها التوسعية، فتتجه إلى باكستان للتوسع فى العمق الاسيوى والإسلامى معا، وتشهد العلاقات بين البلدين تعاونا وثيقا خلال السنوات الأخيرة واهتماما متزايدا من قيادتى الدولتين، فالرئيس التركى رجب طيب اردوغان هو الرئيس الأجنبى الوحيد الذى تحدث أربع مرات امام البرلمان الباكستانى، وباكستان أيدت التدخلات التركية العسكرية فى سوريا وحظرت جماعة فتح الله جولن المعارضة لنظام اردوغان، واتجاه تركيا للتحالف مع باكستان يدعم عملية التوسع الأسيوى التى يسعى لها نظام اردوغان عبر تحالفاته مع اذربيجان ومناطق انتشار العرق التركى كمدخل للوصول إلى الصين، بهدف تعزيز الشراكات الاقتصادية والسياسية والدخول فيما يعرف بطريق الحرير الجديد.
ويسعى اردوغان باستكمال هذا التحالف عبر اختراق العمق الإسلامى بضم باكستان وماليزيا وإندونسيا إلى جانب قطر فى محور إسلامى واحد تشارك فى السيطرة عليه جماعة الإخوان الإرهابية وما تبقى من التنظيم العالمى، بعيدا عن منظمة المؤتمر الإسلامى، وهو ما يدعم احلام اردوغان فى عودة الامبراطورية العثمانية والسيطرة على العالم الإسلامى.
والمحور الثانى فى المنطقة بدأت تظهر ملامحه بعد اتفاقات السلام التى اعلنت فجأة بين بعض الدول العربية وإسرائيل أخيرا، والتى لم يكتف بعضها بالاتفاق على تبادل التمثيل الدبلوماسى فقط، إنما شهد انفتاحا سريعا فى كل المجالات بين الجانبين بشكل أدهش جميع المراقبين، ومثل حرقا لمراحل تاريخية عديدة للوصول بسرعة كبيرة إلى مرحلة الاندماج الاقتصادى والثقافى والفنى والرياضى، دون أى تقدم واضح فى القضية الاساسية التى فجرت الصراع العربى الاسرائيلى وهى القضية الفلسطينية والأراضى والمقدسات العربية المحتلة، وعوضا عن شعار الأرض مقابل السلام الذى رفعته قمة بيروت العربية عام 2002 عبر مبادرة السلام العربية، وصلنا عمليا إلى شعار السلام مقابل السلام، ومن الواضح أن هذا المحور العربى الإسرائيلى سيكون له دور مهم فى المنطقة سياسيا واقتصاديا خلال الفترة المقبلة. وإذا كانت بعض الأطراف العربية تظن أنها تستطيع أن تحل محل الدور المصرى فى القضية الفلسطينية، أو أن تتخذها واجهة لها فى الترتيبات التى قد تشهدها المنطقة بالتعاون مع الإدارة الامريكية واسرائيل، فإن التحركات المصرية المستمرة لتحقيق المصالحة الفلسطينية والاجتماع الثلاثى الأخير بين وزراء خارجية مصر والأردن وفلسطين، وهى الدول المعنية مباشرة بالملف الفلسطينى، هى أبلغ رد على ذلك، خاصة ماجاء فى البيان المشترك لهذا الاجتماع من ثوابت مهمة، مثل: تثمين الأردن وفلسطين للجهود المصرية، والتمسك بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وأن المسجد الأقصى/ الحرم القدسى بكامل مساحته هو مكان عبادة خالص للمسلمين. لم تعد العروبة تجمع العرب، بعد أن تفرقوا إلى شيع ومحاور لا تراعى مقتضيات الأمن القومى العربى، لكن مصر, عمود الخيمة, مازالت متمسكة بدورها التاريخى والقدرى فى السعى للخروج بالعرب من هذه الأزمة غير المسبوقة.