Close ad

كيف يمكن فهم إشكاليات العلمانية الفرنسية؟

19-12-2020 | 17:17

أعاد المؤتمر الصحفي الذي عُقد بين الرئيسين عبدالفتاح السيسي وإيمانويل ماكرون في باريس، في 7 ديسمبر الحالي، أسئلة كثيرة تتعلق بطبيعة النموذج العلماني الفرنسي وقيمه، خاصة بعد الانتقادات الكثيرة التي وُجهت داخل فرنسا وخارجها لتكرار نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم، وهي انتقادات جاءت من شخصيات وتيارات ورأي عام مناهض بالكامل للعنف والإرهاب، وأدان بشكل صارم جريمة ذبح المدرس الفرنسي في الطريق العام أو تبريرها بسبب عرضه هذه الرسوم المسيئة على تلاميذه لـ"تعليمهم حرية الرأي والتعبير" حسب رؤيته.

وقد فتحت هذه القضية النقاش مرة أخرى حول طبيعة النموذج العلماني الفرنسي وخصوصيته حتى أصبح من الصعب فهم كثير من المواقف التي اتخذتها فرنسا تجاه الإسلام؛ بعيدًا عن فهم طبيعة هذا النموذج والإشكاليات التي يثيرها باعتبارها المدخل الرئيسي لاستيعاب السياق التاريخي لخبرة ثقافية وسياسية مختلفة، وأن الحوار هو الأرضية الصحيحة لفهم نقاط الاتفاق والاختلاف واحترام خصوصية كل خبرة دون أن تكون مصدر إساءة للآخرين.

وتصبح قضية العالم العربي ليست "هداية" المجتمع الفرنسي والأوروبي للإسلام أو محاسبته بمعايير نظمه وقيمه، وفي الوقت نفسه عدم تجاهل مشتركات إنسانية بين الشعوب والثقافات المختلفة يجب احترامها مثل رفض العنصرية والعداء للسامية والتحريض والكراهية، وأيضًا الإساءة ضد الأديان.

تحديات عديدة

وقد تعددت التحديات التي تواجه النظام العلماني الفرنسي، بعضها يرجع لما اعتبره الكثيرون تشددًا علمانيًا، وبعضها الآخر إجرائي يتعلق بالقوانين والقواعد التي نظمت عملية الانتقال إلى العلمانية.

وتتخذ العلمانية الفرنسية موقفًا متشددًا من علاقة الدين بالمجال العام، وليس فقط المجال السياسي كما في باقي أوروبا، وتفصل بشكل كامل بين الدولة والمؤسسات الدينية.

كما أنها لا تقبل بأي مظهر ديني في المؤسسات الحكومة، فلا يوجد على لوحه الشرح في المدارس الحكومية صليب مُعلَّق مثل كثير من المدارس الأوروبية، ولا يُسمح بالحجاب أو غطاء الرأس في المدارس أو أي مؤسسة حكومية، في حين أن المدارس الخاصة، ومنها الكاثوليكية، قبلت طالبات مسلمات يرتدين الحجاب عقب استبعادهن من المدارس الحكومية.

ومن هنا، فإن رفض كثيرين في العالمين العربي والإسلامي لقرار الحكومة الفرنسية في العقد الماضي بمنع ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية والمؤسسات العامة، وتصويره على أنه يستهدف فقط المسلمين، هو تجاهل لطبيعة النموذج الفرنسي الذي استهدف كل الرموز الدينية، وليست الإسلامية فقط، وفصل حضورها عن المؤسسات العامة.

وتُشغل العلمانية الفرنسية نفسها بتفاصيل كثيرة تتعلق بحضور الدين في المجال العام، وهى تعمل على علمنة كاملة للمجال العام ليصبح "خاليًا" من أي مظاهر دينية؛ فترفض الحجاب وتثير معارك حول لباس البحر "البوركيني" أو قضية بيع بعض المطاعم لوجبات اللحم الحلال، وهى قضايا لا تشغل اهتمام أبناء الثقافة "الانجلوسكسونية" في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية (إلا المتعصبين منهم)، ولا تثير أي اعتراضات من قبل الدولة.

نموذج مختلف

أما على المستوى الإجرائي، فقد مثّل قانون 1905 الأساس القانوني للقواعد المنظمة للنظام العلماني الفرنسي. وينص القانون على عدم قيام الدولة بالإنفاق على المؤسسات والهيئات الدينية.

هذا الأمر ظل مفهومًا بالنسبة لبلد مسيحي مثل فرنسا، حيث استطاعت آلاف الكنائس والأديرة والهيئات الدينية أن تنفق على نفسها دون الحاجة لمساعدة الدولة.

ومع دخول الوافد الديني الجديد إلى فرنسا ممثلًا في ملايين المسلمين، أصبحت هناك حاجة لبناء مساجد ومؤسسات دينية ومقابر، وهى كلها أمور لا تنفق عليها الدولة الفرنسية العلمانية، فاضطرت المؤسسات الإسلامية أن تعتمد على تمويل أجنبي (بعضها كان بلا ضوابط) حتى إن عددًا كبيرًا من المساجد في فرنسا ظل يُموَّل ويُدار من قبل دول إسلامية كثيرًا ما أدخلت حسابات السياسة أكثر من الدين.

ولعل ذلك ما جعل حديث الرئيس ماكرون مؤخرًا عن ضرورة منع التمويل الأجنبي للمؤسسات الدينية الإسلامية مرتبطًا بحديثه عن إمكانية مراجعة أحد الأركان القانونية للعلمانية الفرنسية، أي قانون 1905، والسماح للهيئات الإسلامية بالحصول على مساعدات من قبل الدولة للقيام بأعمال الترميم وتجديد دور العبادة، وفي الوقت نفسه امتلاك الدولة حق رفض أي مساهمة تزيد على 10 آلاف يورو، وضرورة الإعلان عن مصادرها، وذلك من أجل الحد من تأثير وسيطرة الدول الأجنبية على دور العبادة وكثير من الهيئات الإسلامية في فرنسا.

وسيبقى تشدد العلمانية الفرنسية مرتبطًا، في جانب رئيسي منه، بالقطيعة السياسية والدينية التي حدثت باندلاع الثورة الفرنسية في عام 1789 مع التقاليد والمؤسسات الدينية، على خلاف النموذج البريطاني الذي مال للتدرج والتراكم وعدم القطيعة مع التقاليد القديمة؛ مما يفسر بقاء المؤسسة الملكية إلى اليوم، وأيضًا اعتراف الدستور بالكنيسة الأنجلوسكسونية ككنيسة وطنية، وحضور الدين والمظاهر الدينية في المجال العام وفي الوقت نفسه فصله فقط عن المجال السياسي.

دور بارز

لقد ظلت الكنيسة تلعب لقرون دورًا بارزًا ومؤثرًا في المجتمع الفرنسي، وكانت فرنسا تسمى في العصور الوسطى بـ"الابنة الكبرى للكنيسة".

كما أن ملوك فرنسا كانوا دائمًا في صدارة المدافعين عن المؤسسة البابوية، وذلك منذ عهد شارلماني في القرن الثامن، فضلًا عن أن حروب الأديان الطاحنة التي امتدت لعقود كاملة خلال القرن السادس عشر، دفعت الكثيرين منذ الثورة الفرنسية إلى حسم علاقة الدين بالدولة التي بدأت بقانون توافقي بين الجانبين وقعه نابليون بونابرت في عام 1802، وانتهى بقانون الفصل الكامل بين الدولة والمؤسسات الدينية في عام 1905.

ختامًا، سيبقى فهم خصوصية النموذج العلماني الفرنسي مدخلًا لفهم كثير من الجوانب المتعلقة بأداء فرنسا على المستوى الثقافي، وعلى صعيد موقفها من قضايا مثل السخرية من الأديان والحجاب وغيرها، وهو لا يعني قبول هذا النموذج أو قابليته للتطبيق في الدول العربية، وإنما يعني النقاش حوله من خلال الحوار الحضاري بين خبرات ثقافية مختلفة، ويمكن لتلك الدول أن يكون لها إسهامها في وضع الإساءة للأديان والرسل ضمن الجرائم المدانة قانونيًا في العالم كله مثل العنصرية والعداء للسامية وخطاب التحريض والكراهية، بعيدًا عن العنف والتحريض.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة