Close ad

إلَّا.. الطابق السادس في «الأهرام» .. (7)

9-12-2020 | 08:38

إلَّا.. الطابق السادس في «الأهرام» .. (7)

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».
من هنا اشتعلت نار وتوهج نور معركة «الأحاديث الأربعة» التي كان يناجي بها شيخنا لكبير توفيق الحكيم، رحمه الله، وكما ذكرت في نهاية الحلقة السابقة فيها نفحات ولفحات.. حريق ورحيق .. أشواق وأشواك.. تحقق للذات بالذات.. حيرة وتحيير في الذات الإلهية التي ندور كلنا في فلك نور منها ، أو نتضرع إلى الله أن يمن علينا ولو ذرة أو بعض ذرة من هذا النور... !.

كانت «معركة الأحاديث الأربعة» آخر معركة فكر خاضها توفيق الحكيم عام 1983 وهو الذي اشتهر عبر تاريخه الطويل بالعديد من معارك القلم والاجتهاد والإبداع في مواجهة أصحاب الاتجاهات الفكرية المخالفة له.

وتسعفنا الذاكرة الفكرية أنه خاض أول معركة في أربعينيات القرن العشرين مع الشيخ المراغي شيخ الأزهر آنذاك، ومع مصطفى النحاس زعيم الوفد، وزعموا أن تاريخ توفيق الحكيم حافل بمعارضته للفكرة الإسلامية منذ اليوم الأول لظهور مسرحيته «أهل الكهف» 1932، وحتى اليوم، (!) قامت الدنيا آنذاك ولم تقعد، وعندما سألته عن هذا العمل قال لي مجيبا بخط يده ضمن صفحات رائعة تضم خلاصة أهم عشر محطات في حياته، «أن القرآن الكريم جعلني كاتبا محترما» في سياق حديثه المخطوط معي وهو يتحدث عما رآه عندما سافر إلى فرنسا عام 1924 وشاهد مدى احترام الناس هناك للمسرح ونظرتهم المحترمة للمؤلف المسرحي، وأن فنه المسرحي يدرس في الجامعات (وسوف أختص الأهرام بهذه الأوراق قبل أن أنشرها في كتابي القادم (بصمة العقل) الذي يحتوي أوراقًا مخطوطة لأكثر من عشرة من المفكرين والمبدعين أمثال توفيق الحكيم، والعقاد، ومصطفى أمين ويوسف إدريس، ونزار قباني، وأنيس منصور، والطيب صالح، وإحسان عبدالقدوس، وعبدالوهاب البياتي، ورشاد رشدي، وعبدالرجمن الأبنودي، ونصر أبوزيد، ونوال السعداوي، وحسن شاه، ووجيه أبوذكري، وغيرهم.

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

وفي سياق معارك الفكر والقلم، شهد الطابق السادس في سبعينيات القرن الماضي عاصفة الحكيم مع اليسار المصري بعد صدور كتابه الذي زلزل المجتمع «عودة الوعي» وهناك معركة إبداعية أخرى على صفحات (مجلة أكتوبر) عندما أجرى الحكيم بطريقته حوارًا مع ملك الموت، وبأسلوب ساخر معه حول الأجر الإضافي ومن يساعد ملك الموت، واعتبره المعارضون والتكفيريون إياهم تجرؤًا وعنادًا لله (هكذا!) بل شبهوا الحكيم مثله في ذلك كمثل إبليس!!

وفي آخر معارك الحكيم الفكرية (الأحاديث الأربعة) التي بدأ مع صباح الأول من شهر مارس من عام 1983 حين نشر الأهرام الحديث الأول للحكيم مع الله، سبحانه وتعالى، بعنوان «حديث مع الله» وهاج المعارضون، هذا يرغي وهذا يزبد، عاصفة عاتية ألهب أوراها أكثر الشيخ الشعراوي، وسار وفي ركابه مجموعة من المشتغلين بالفكر الديني، وشكلوا معسكرًا استمد قوته مما أسموه آنذاك بالغيرة الدينية، ومع الحكيم كان في المعسكر فيلسوفنا د.زكي نجيب محمود، ومبدعنا العظيم د.يوسف إدريس.

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

رصاصات إعلامية أطلقها الشعراوي على الحكيم :«الأستاذ توفيق الحكيم لم يقل لنا كيف كلمه الله.. هل واجهه أم أرسل إليه ملكًا أم ماذا حدث؟.

كان منظور الشعراوي أن الحكيم «قيد مرادات الله بمراداته، فجعله يقول ما يريد عقله أن يقوله، وقيد إرادة الله بإرادة البشر”، وهو ما اعتبره «اجتراءً جسيمًا على الله فاعله موعود بالويل» مضيفًا أن الحكيم “استباح لنفسه ما لم يبحه الله لنبيه محمد».

رد الحكيم بقوله فيما نشرته في «الأخبار» إن أحاديثه لم تزد عن كونها نوعًا من المناجاة مع الله بلغته الخاصة وثقافته الخاصة تعبيرًا عن حبه الخالص» لكن الحكيم أعلن رفضه لـ“الفكر الذي يصدر بلا تفكر عن غير عقله الذي خلقه الله ليفكر، أو يرتدي بلا مناقشة ما خرج من قلب وعقل الآخرين دون تأمل أو تمحيص» مستشهدًا بكتابات السابقين الذين نسبوا أحاديث إلى الله تعالى، شعرًا ونثرًا في أساليب جريئة.

وقد انتقد الشعراوى رأي الحكيم في نسبية الأديان قائلا: «لقد قال الحكيم إن الملحدين من العلماء أمثال أينشتاين سيدخلون الجنة رغم أنهم لم ينطقوا شهادة "أن لا إله إلا الله" وأن هؤلاء أتوا بما لم يأت به الرسل، وهذا مساس بصفة العدل عند الله، فالأستاذ الحكيم يريد أن يدخل هؤلاء الجنة بلا إيمان أو حساب، وكأنما غفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر بدعوى أنهم أضافوا إلى الإنسانية أشياء جليلة».

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

وكان كاتب هذه السطور طرفًا صحفيًا، وشاهدًا وشهيدًا على هذه المعركة الشرسة، حين دعا الشيخ محمد متولى الشعراوى كلا من توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود، لعقد مناظرة تليفزيوينة حول مقالات الحكيم «حديث مع الله».

وإلى هنا والأمور هادئة، لكن الشيخ الشعراوي أعلن أنه يحضر المناظر (وحده) فى مواجهة (الثلاثة) الأمر الذي رفضوها رفضًا قاطعا، ونشرت حوارية سريعة مع الحكيم في (الأخبار) وانضم زكي نجيب محمود ويوسف ادريس إلى الرفض التام لـ(مطلوبات) الشيخ الشعراوي، على حد تعبيره الشائع في برنامج (خواطري حول القرآن الكريم).

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

اتسعت ساحة النزال الفكري حين انتقد زكي نجيب محمود «الحقد على الغرب الناتج عن العجز الحضاري، والادعاء بالتميز المتوهم؛ كون الغرب يملك العلم وأدوات الحضارة، بينما لا نملك إلا مجموعة كتب تراثية قديمة لا يرتبط معظمها بالعصر الذي نعيش فيه»، واستدعى لهذا المشهد سخرية الشيخ محمد متولي الشعراوي من الحضارة الغربية، في إحدى حلقات خواطره التليفزيونية، حين انتقد فرحة الغرب بالصعود إلى القمر، ليخرج ورقة من علبة مناديل ويلوح بها في الهواء، في إشارة إلى أن «الورقة أنفع من صعود القمر».(!!) هذا السلوك، طبقا للذاكرة الفكرية، استفز زكي نجيب محمود باعتبار أن الشيخ الشعراوي أول المستفيدين من صعود القمر؛ لأن «الأقمار الصناعية التي تنقل أحاديث الشيخ إلى العالم كله هي إحدى النتائج الفرعية لهذا الصعود»، والتليفزيون والكاميرات التي تدخله ملايين البيوت هي نتاج العلم الغربي».

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

ومن هنا من هذا المكان العبقري.. ما بين درجات سلم الطابق الخامس - حيث يوجد الثنائي المتعارض مذهبيًا والمتناقض فكريًا (يوسف إدريس وبجواره ثروت أباظة) - وأجواء الطابق السادس... اشتد وطيس الجدل الفكري حين نزل يوسف إدريس ساحة المعركة مسلحًا بفكره المستنير، ومدفعيته الفكرية الثقيلة.

وإلى لقاء قادم إن كان في العمر بقية...

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: