Close ad

رسائل ميدان التحرير

3-12-2020 | 12:42

لم أر ميدانا مصريا في حياتي كميدان التحرير، وبلغة صدام حسين فهو أم الميادين، تاريخ من الثورات والانتفاضات، للطلبة والعمال، ثم للجميع في ثورة يناير بثوبها الزاهي الجميل في البدايات الرائعة لها، ثم للشعب كله في ثورة الوعي والاسترداد للوطن في 30 يونيو 2013..

وإذ أمر مصادفة مساء يوم الإثنين الماضي في ميدان التحرير داخلا إليه من شارع طلعت حرب، لأجد نفسي وسط حالة مذهلة من الجمال والفتنة.. نعم نستطيع أن نكون سياحًا في بلدنا أيضًا، لأن نظرة الزائر المندهش سيطرت على كل حواسي وعيني اللتين فتحتهما عن آخرهما ولم تستوعبا بنظرة واحدة كل هذا السحر..

ميدان التحرير الذي أبهرني في زياراتي الأولى القديمة له في بداية السبعينيات، لأمر بجوار ساعة الزهور، وأعبث بالخريطة الضوئية على أحد جوانبه، خريطة شوارع وسط البلد، ظل لسنوات طويلة يتأرجح ما بين التخبط والتخلف، وزاد المسألة سخافة عمل كوبري مشاة مستدير، لينقل المشاة بين مداخله ومخارجه، كما ضم موقف أوتوبيسات تحرق وقودها في واجهة المتحف المصري.. أما مجمع التحرير فقد كان كفيلا بأن تلعن أي يوم تذهب فيه إلى الميدان لاستكمال مصلحة ما في ذلك المبنى العتيق..

لكن الميدان لم يفوت جمالياته، فقط إجازة أو فترة كمون، أعتلاه فيها الغبار والأتربة، فمبنى المتحف المصري في مكانه، ومبنى الجامعة الأمريكية، وقصر التحرير (مقر الخارجية قديما)، وتمثال ومسجد الشيخ عمر مكرم الذي كان البعض يتندر بأن من لم يقم عزاءه فيه (من النخبة) كأنه لم يمت .. رغم أنني كنت أحرص أحيانا على الدوران خلف المسجد لأقرأ الفاتحة لصاحب المقام الأصلي الشيخ محمد العبيط واقفًا بجوار شباكه وناظرًا إلى الإحاطة الخضراء العتيقة لمقبرته. وكثيرا ما دلفت من البوابة الخارجية القديمة أو بوابة المعهد الدبلوماسي لألتقي الدكتور أسامة الباز..

نظرت إلى الميدان لأجد تفاصيل جديدة تمامًا وكل جزء فيه يعطي فكرة عن الغنى الفادح بلون الذهب والذي يعيد صياغة مباني الميدان بالضوء الأصفر وتنويعات وتوزيعات الإضاءة التي نفذها مهندسون أصحاب رؤية وأسلوب.. وعرفت أن المهندس شهاب صاحب التصميم والرؤية وهو ابن النجم الراحل أحمد مظهر..

لقد ظلت قاعدة تمثال الخديو إسماعيل الذي كان مخططًا له أن يطل منها، لولا وصول التمثال من إيطاليا إلى ميناء الإسكندرية متأخرًا، تصادف أنه وصل ليلة مغادرة الملك فاروق مصر بعد أيام من ثورة يوليو 1952.. ظلت القاعدة كما هي لكي يقترح توفيق الحكيم اكتتابا لصنع تمثال لعبد الناصر بعد وفاته مباشرة وتبرع بخمسة جنيهات على بخله الشهير..

ولم تتحرك الفكرة أكثر من ذلك... ظلت القاعدة كما هي فارغة لكنها ألهمت الطلبة والعمال في ثوراتهم طوال السبعينيات، داروا حولها وكتبوا وغنوا تحتها، وأرسل لهم أمل دنقل ذات مرة قصيدة "الكعكة الحجرية".. وبعد سنوات كان على محافظ القاهرة أن يأمر عماله بتفكيكها ووضعها في المخازن من أجل حفر الخط الأول من مترو الأنفاق ولم تعد أبدًا..

امتلأ الميدان بجلسات ترج القلب في مقهى إيزافيتش الذي يجلس فيه شعراء وفنانون ومقهى علي بابا الذي اشتهر بجلسة نجيب محفوظ الصباحية ومقهي وادي النيل الذي فجرته عملية إرهابية غبية في التسعينيات.. كنت تستطيع من مقهى أبو علي في الحديقة الخلفية لفندق النيل هيلتون أن ترى الكثير من أجزاء الميدان، وتحلم بالكثير للاحتفاظ به من دون بطش وبإخلاص للسيطرة على نزعات انفتاحية بالغة القسوة، وكبح نزعات دعاوى الهدم وإعادة البناء لأهداف الاستثمار..

الوضع المبهر الذي رأيته يوم الإثنين هو في أسلوبه وصياغته، يطبق قيمة الإخلاص للأصول والتفاصيل الكثيرة الموجودة في الميدان. أما الإضافة فكانت في مسلة الملك رمسيس والتي أخيرًا أراحت كل من اشتغلوا على وضع القاعدة الرخامية القديمة، ثم الكثير من أشكال الحدائق، ثم فكرة علم مصر على ساري شديد الارتفاع.. لأن المسلة، وهي عنصر مصري أصيل نادر واستثنائي في الحضارات القديمة في العالم، في الوقت الذي تزين ميادين في غاية الروعة في روما ولندن ونيويورك وباريس وغيرها، كان يجب أن تزين ميدان التحرير من قديم الزمان.. لأن المسلة ليست أمرًا شخصيًا، فقد كان الحكام يريدونها "قاعدة" لأغراض مرتبطة بتخليد ذكراهم..

الآن ينتصب عنصر رمزي فرعوني، لكنه شديد السيطرة على قلب الميدان، أما الكباش الأربع المجلوبة من الأقصر، فهي عنصر في غاية الجرأة بصريًا، وقد يكون صادمًا، ولكن أكاد أجزم بأننا سنعتاد عليه..

إن الإحاطة الضوئية بالميدان وأركانه المتعددة تعطي دفئًا كما تشي بالانبهار، بينما الأشجار التي تزين الميدان في جميع جنباته تشطب إلى الأبد سنوات عشناها في ميدان عار بسبب الاقتراحات والأفكار والمشروعات الحائرة في شكل الميدان من دون أن تصل إلى الصياغة الأخيرة الجميلة التي حولته إلى متحف مفتوح، وإلى ثروة فنية، وبالتأكيد إلى ثورة جديدة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: