Close ad

ضيقة الأزقة مرتفعة البناء

30-9-2020 | 07:40

"ضيقة الأزقة مرتفعة البناء"، من كتاب "الفسطاط وضاحيتاها العسكر والقطائع" لعبدالرحمن زكي نقرأ: وقد قال روفس (طبيب إغريقي مشهور نشأ في أفسوس وازدهر اسمه في الإسكندرية في أثناء القرن الأول الميلادي): إذا ما دخلت مدينة فرأيتها ضيقة الأزقة مرتفعة البناء فاهرب منها لأنها وبيئة.

والمثير للدهشة، أن الإسكندرية بالذات التي ازدهر فيها اسم الطبيب الإغريقي هي التي باتت تلك المدينة ضيقة الأزقة مرتفعة البناء.. نحب الإسكندرية ونغرم في هواها، رغم كل شيء، لكنها تحولت إلى ما هي عليه الآن، بسبب الإدارة المتعاقبة السيئة، والضعيفة، والتي لم تتمكن من اتخاذ قرار واحد ينقذ الإسكندرية، بخلاف الرضوخ للأمر الواقع.. ناطحات سحاب على البحر من دون تنظيم لتقف عائقا أمام الهواء والشمس، عمارات شاهقة في شوارع وحواري ضيقة، حولتها كلها إلى "زنقات"، ولم ينج من التشويه العمراني إلا بعض الأماكن القديمة على البحر أو في شوارع وسط البلد.

كنا نذهب إلى الإسكندرية قديمًا في القطار، وكان الجلوس بجوار النافذة متعة، وكانت الأراضي الزراعية على الجانبين من أمتع مشاهد الحياة.. كان الفلاحون يبنون لأبنائهم، يقيمون في نفس البيت، ويضيفون إليه، لكنهم لم يغتصبوا الأرض الزراعية لبناء عمارات شاهقة.. والآن لا تطلعك نافذة القطار الآن على شيء سوى أحزمة البؤس حول المدن والمراكز التي يمر بها.. بناءات مشوهة لا نظير لها ولا حل.. وكأنها مؤامرة، أن تكون المشاهد نفسها في كل مدينة، في القاهرة والجيزة والقليوبية والصعيد.. مع أنها مبان ذات كلفة ولا يشيدها عمال بناء يكدحون مجانا.

لم يفكر من شيدوا عمارات ضخمة في الأزقة في الجيزة وفي القليوبية وغيرهما، أو لم يهتموا بترخيص أو الالتزام بمعايير نفس الشارع من ارتفاعات وارتدادات، ولم يفكر تجار الأراضي أو من اشتروا وحدات ودفعوا أموالهم، في أن تكون مرخصة أم لا، في أن تكون في حاجة إلى خدمات خصوصًا في حالات الطوارئ.

وأكاد أجزم أن نصف شوارع وحواري مصر في الوقت الراهن لا تتسع لدخول سيارة أطفاء أو إسعاف.. ولا توجد إحصائيات دقيقة، ربما باستثناء ما ذكره رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي من أن نصف الثروة العقارية في مصر مخالفة.. وأظن أنها أكبر من ذلك لأن الجميع مخالفين في القرى والنجوع، كما في ناطحات السحاب، في الأحياء الجديدة كما في الكمباوندات، وإذا لم يجد صاحب فيلا في التجمع الخامس ما يفعله، فهو يحول الجراج إلى مخزن أو شقة، في مخالفة مجانية لا ضرورة لها.. أو يحول الحديقة إلى مخزن، الرووف إلى فيلا حتى لو غطاها بالصفيح.. هي الرغبة العارمة في المخالفة والتدمير الذاتي كأنه السرطان.

أما لماذا الآن.. لماذا تركتمونا حتى استفحل الأمر وتصورنا أن المخالفات استقرت بدخول المياه والكهرباء والصرف الصحي والامتداد العمراني.. أما الإجابة فهي: لأننا نريد أن يتوقف النزيف وأن نبدأ البناء مجددا على أصول عقارية وتنظيمية تجعل الثروة العقارية المهدرة حاليا مصانة، وذات قيمة.

مشكلة قانون التصالح الأخير هي أنه عُرض على المواطنين باعتباره عقوبة بينما هو في الحقيقة منحة، ولكن الظن أو سوء الظن حول القانون إلى عقاب بينما هو فرصة أخيرة لكي نعالج العمران الناقص في مصر، غير أن الناس بسبب الانتهازية وإستراتيجية المؤامرة الثابتة لا يفطنون إلى ذلك..

أما الذين سارعوا إلى التصالح، فإنهم يعرفون أن الفوائد العائدة إليهم لا تكاد تخفى على أحد.. كما أن الرؤية البعيدة هي أن الانحراف والتشويه العمراني لن يجدا مجالاً مرة أخرى.. وأنهم سيتركون لأبنائهم مبان مرخصة سترتفع مع الوقت قيمتها التسويقية.. إذا الناس سبقت الحكومة في أعمال البناء فإن النتيجة هي الفوضى، وإذا بادرت الحكومة وخططت للناس فإن الحاصل هو النظام.

إننا قد نصاب بالجنون إذا تابعنا قنوات قطر العلنية منها والخفية عندما تفتح المجال لاتصالات مصريين من تركيا والولايات المتحدة وسويسرا والنمسا وكندا وبريطانيا، وهم يرفضون قرارات تنظيم البناء، والادعاء بهدم البيوت على رؤوس الفقراء، وتشريد الأهالي، وهم يعرفون أن شيئا من هذا لم يحدث، ولكنهم وهم الذين يعيشون في هذه الدول، وأن أي بناء من هذه النوعية التي شوهت مصر عمرانيا، لا يمكن أن يبقى، أكثر من ذلك، يشاهدون يوميا المباني بتصاميم معينة، وألوان واجهات محددة، وأطوال ثابتة وخاصة بكل منطقة..

هذه قصة ليست طريفة بطبيعة الحال، لأن البديل لعدم سماع هؤلاء، والنجاة من أباطيلهم، هو ترك الأمور كما هي، ولكن الترك لا يوقفها عند حد، إنما سيكون إيذانًا بالمزيد من التدهور والفوضى والعشوائية..

لقد سألت أحدهم ألا تحزن من تجريف أرضك مما تأكل لتبني بيتا، رد قائلا: البركة في الجبل.. ذهلت من منطقه الذي يعني قناعة ربما تكون عامة، بأننا نبور الأراضي الزراعية لنسكن، ثم نذهب ونستصلح الرمال.. ثم نشاهد البيوت المصرية الجميلة من زمن الخديو إسماعيل في الصور.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة