الشباب هو المستقبل وهو أيضا عماد الأمة، وكذلك التعليم والصحة، والأمم التي تزخر بأعداد كبيرة من الشباب أمة قوية وواعدة، ولكن بشروط محددة، ولا شك فإن التعليم والصحة وجهان لعملة واحدة تعكس مدى تقدم ونهضة الأمم، وبدون التعليم والصحة والوعي الحقيقي فلا أمل في النهوض.
أسوق هذه المقدمة التي تتزامن مع موسم تقديم أبنائنا الطلاب للدراسة في الجامعات مع قرب الدخول في العام الدراسي الجديد، وبعدما فرحت مصر منذ أيام بأبنائها المتفوقين في ختام المرحلة الثانوية بعد العام الدراسي الاستثنائي المثير المليء بالمتناقضات، والذي تميز كذلك بارتفاع معدلات التفوق بشكل غير مسبوق وبمجاميع تثير الدهشة بشكل غير عادي، ولأول مرة نجد احدى المدارس غير الخاصة وليست من مدارس اللغات أو الدولية وقد حصل قرابة 120 من طلابها على مجموع أكثر من 98 في المائة!
وفي ذات الوقت رصدنا طلابا متفوقين من مدارس أخرى يحققون مجاميع تخطت حاجز الـ 97 في المائة وقد لا يستطيعون الالتحاق بكليات ما تسمى بالقمة في الجامعات الحكومية، ثم يصطدمون بالأرقام الضخمة لمصروفات غير منطقية لكي يحقق المتفوق غير المحظوظ حلمه الشخصي في دراسة علوم الطب أو الهندسة بأي من الجامعات الخاصة بمصروفات تتخطى المائة ألف جنيه كل عام وقد تزيد في بعض الجامعات.
مما يتسبب في حالة إحباط مبكرة لهؤلاء الطلاب المتميزين ويجعلنا بالضرورة نحذر من حدوث "فقاعة تعليمية"، إذا ما أخذنا في الاعتبار معاناة الأسر المصرية في تدبير مئات الآلاف من الجنيهات سنويًا في ظل الظروف الاقتصادية غير الميسرة والتي ستقدم لنا في النهاية خريجًا عاطلًا وطاقة مهدرة، وهذا هو الواقع للأسف الحادث منذ سنوات في سوق العمل المصري.
وهذا يجعلني أتساءل: من الذي يحدد قيمة هذه المصروفات الضخمة؟! وهل أصبح التعليم الجامعي في مصر للأغنياء فقط ولا مكان فيه للموهوبين، وما ذنب الطالب الذي لا يلجأ إلى الغش الذي أصبحت أساليبه متجددة ومبتكرة في زماننا، وكيف يحقق طموحه وهو لا يملك سوى القدرات العلمية، ولكن خدعته لغة الأرقام أو ما يسمي بالمجموع؟
إننا نحتاج إلى إجابة واضحة عما إذا كان التعليم الجامعي في مصر أصبح يعاني فعلا من فقاعة خادعة لاعلاقة لها بالواقع الصعب الذى يواجهه ملايين الشباب من الخريجين في نهاية كل عام دراسي، حتى إن الكثيرين منهم باتوا يلجأون الى تغيير بوصلة حياتهم العملية في نهاية المطاف بعيدًا عن تخصصاتهم الدراسية والعلمية.
يا سادة إنها ليست دعوة تشاؤمية أو سوداوية، ولكنه الواقع الذي علينا أن نواجهه بكل صراحة، ذلك لأن عدد الجامعات الخاصة التي تزداد وتتوسع في كل عام لا تتناسب مع متطلبات العمل في السوق المصري، مما أفرز هذا الانفصام بين الأعداد التي يتم قبولها للدراسة الجامعية في كل عام وبين ما يحتاجه السوق نوعيا، صحيح أننا في أشد الحاجة للمزيد من الأطباء عطفًا على النقص الحاد الذى يعانيه هذا الكادر المهم ومازلنا بحاجة إلى المزيد من المهندسين في ظل الطفرة الإنشائية والمعمارية التي ستقدم عليها مصر، ومازلنا بحاجة إلى المزيد من كافة التخصصات العلمية والتربوية والإنسانية وأيضًا الفنية التي يجب تدريبها جيدا.
أرى أنه آن الأوان لإلغاء شرط المجموع للقبول بالجامعة أو مانسميه بالتنسيق والاعتماد على الموهبة والقدرات الذاتية للطالب واللجوء إلى اختبارات الشخصية بدون مجاملات وبدون ما يمسى بمكتب التنسيق، لأنه ليس من الضروري أن يكون أبناء الأطباء أطباء وأبناء المهندسين مهندسين وأبناء الإعلاميين وكذلك القضاة والدبلوماسيين وغيرهم في كافة التخصصات.
مصر ياسادة بحاجة إلى المواهب والكفاءات وليس أهل المحسوبيات والثقة فالقدرات لا تورث ولكنها مواهب يتم صقلها بالعلم وليس بالواسطة، إذا ما أردنا النهضة الحقيقية والجادة بعيدًا عن الفساد والمحسوبية التي كنا نعاني منها طيلة عقود غابرة ومازلنا ندفع ثمن هذه الأخطاء حتى الآن، وسوف تستمر الأجيال القادمة في سداد هذه الفاتورة بلا ذنب إن لم يكن هناك إصلاح حقيقي وجاد ليس فقط لنظام التعليم وإنما لآليات القبول للدراسة الجامعية التي تعطي للطالب المتميز والمتفوق حقه بعيدًا عن إفرازات الغش الذي تفشت بأساليب ممنهجة وغير اعتيادية.
ياسادة علينا الانتباه إلى أننا سنعاني من فقاعة تعليمية كارثية إن لم يتم التصحيح من أجل إنصاف أبنائنا ومجابهة جشع الجامعات الخاصة.
لأنه ليس منطقيًا أن نحرم موهوبًا حقق معدلات التفوق، ونصف درجة أو أقل من ذلك تحرمه من التخصص الذي سيبدع فيه ويتناسب مع قدراته…
* نقلًا عن مجلة الشباب