Close ad

ماكلوهان .. وأفكار مستقبلية عمرها 50 سنة

30-8-2020 | 16:22

كتبت من فترة عن الفين توفلر وكتابه «صدمة المستقبل» الذي صدر عام 1970، وأثر على الفكر السياسي الاجتماعي ورؤية البشر لذواتهم ومجتمعاتهم.

وأكتب اليوم عن مؤلف آخر هو مارشال ماكلوهان الذى صدرت أول كتبه بعنوان: العروس الميكانيكية عام 1951، وآخرها الحرب والسلام فى القرية العالمية عام 1969. وذلك نظرًا للتأثير الذى أحدثته أفكاره فى مجالات الإعلام والاتصال.

هذا المؤلف كندى الجنسية، ولد عام 1911 وتوفى عام 1980، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية فى النقد الأدبى وعاد للتدريس فى بلاده. تكشف كتاباته عن معرفة عميقة بعلوم الاجتماع والتاريخ والنفس والنقد الأدبي، وتوظيفها لفهم ديناميات عملية الاتصال فى المجتمع الحديث. والآراء التى طرحها ماكلوهان من نصف قرن أو يزيد ما زالت واردة ومناسبة لوقتنا الحاضر، بل إن بعضها يتم تقديمها لنا الآن بعبارات جديدة وكأنها أفكار مستحدثة.

نقطة البدء فى تفكير ماكلوهان هى سعيه لفهم العلاقة بين التكنولوجيا من ناحية والمُجتمع والثقافة من ناحية أُخري. فكتب أن درجة التقدم التكنولوجى فى أى مرحلة تاريخية تمثل العنصر الحاكم فى التنظيم الاجتماعي وإدارة العلاقات بين أفراده ومؤسساته، لأن كل نمط تكنولوجي يصنع بيئته الخاصة به، ويؤثر على سلوك الإنسان وشكل اعتماده على حواسه الخمس، وكيفية إدراكه أو وعيه بمحيطه الاجتماعي. ووصل إلى القول إن هوية كل فترة تاريخية أو حقبة زمنية تستمد من درجة التقدم التكنولوجي السائدة فيها.

ومع أن كثيرًا من الباحثين فى مجال الإعلام والاتصال يصفون آراء ماكلوهان بالحتمية التكنولوجية، فإنه فى اعتقادى لم تكن كذلك، فقد تنبه ماكلوهان إلى دور الإنسان فى التعامل مع التكنولوجيا وحذر من أن يسبق التطور التكنولوجى قُدرة البشر على التكيف معه ولاحظ أنه فى مراحل الانتقال من نمط تكنولوجي لآخر، فإننا نقترب من الجديد بنفس الإدراك وطريقة التعامل مع القديم. وأكد أيضًا ضرورة فهم الناس لآثار التطور التكنولوجي فهو كما يزيد قُدراتهم على الفهم والإدراك، فإنه يُزيدُ من قُدرة المُجتمع على السيطرة عليهم، ووجد الحل فى أن معرفة الناس لهذه الآثار السلبية هي الإستراتيجية المثلى لتحاشيها. وكتب أن: معرفتنا بكيف تشكل التكنولوجيا البيئة المحيطة بنا، فإننا نستطيع أن نسيطر عليها ونتغلب تمامًا على نفوذها أو قدرتها الحتمية.

وكتب ماكلوهان أن أدوات الاتصال بين البشر مرت بعدة مراحل، ففى مرحلة مبكرة وممتدة من التاريخ ساد نمط التفاعل الشفهي، وهي التي أسماها مرحلة ما قبل التعلم واعتمد الإنسان خلالها على الأذن وحاسة السمع. ثم مرحلتي الكتابة والطباعة والتى اعتمد فيهما الإنسان على العين وحاسة البصر. وارتبطت أدوات الإعلام الجماهيري فى العصر الحديث بحواس مختلفة كالبصر بالنسبة للصحف والمجلات، والسمع بالنسبة للإذاعة وكلاهما لمتابعة الصورة والكلمة فى التليفزيون والسينما، وصولا إلى ما اسماه عصر الدوائر الإلكترونية، وأنماط الاتصال الشبكى التفاعلى التي تطورت فيما بعد في شكل الإنترنت.
يقول إن وسائل الاتصال هي امتداد لحواس الإنسان، وإن البشر يستخدمون الحواس التى تتطلبها وسيلة الاتصال، وإن كل وسيلة تؤثر على العلاقة بين الحواس والتوازن فيما بينها، وإن المبتكرات التكنولوجية تؤثر على شخصية الإنسان وطريقة تفكيره.

وكتب ماكلوهان من أكثر من 50 سنة أن وسائل الاتصال الإلكتروني التى كانت فى بداياتها وقتذاك، سوف تغير من استخدام الإنسان لحواسه وكيفية إدراكه للأمور، وسرعة استجابته للأحداث، فامتداد أى حاسة يعدل من طريقة تفكيرنا وتصرفاتنا وادراكنا للعالم.

ولكن أخطر ما اقترحه ماكلوهان وكان مثارًا للجدل هو فكرته عن العلاقة بين الوسيلة والمضمون، فأكد أن الوسيلة هي المضمون، وأن مضمون الاتصال أو رسالته أصبح رهينة للوسيلة او حسب تعبيره فان الرسالة تذوب فى الوسيط. ويترتب على ذلك أنه على من يريد نقل مضمون ومحتوى ما إن يصيغه بالشكل المناسب للوسيلة أو الوسيط. فالتركيز هنا على الوسيلة التي تنقل المضمون. فكل ابتكار تكنولوجي اتصالي هو وسيلة جديدة لمضمون كان موجودا من قبل، وهذه الوسيلة الجديدة توجد واقعًا جديدًا يؤثر على الطريقة التي يستخدم بها الناس حواسهم ويؤثر على طريقة إدراكهم ووعيهم، فالعبرة لديه مثلا ليس بالمضمون الذي يبثه التليفزيون، ولكن الأهم أن التليفزيون يعدل ويغير من أساليب استخدام الناس لحواسهم.

ونستطيع أن نُطبق هذه الفكرة على أجهزة التليفون الذكية التى أضافت إلى السمع والبصر، الاعتماد على حاسة اللمس وخصوصًا التوافق بين اللمس والبصر. وبنفس المنطق فإن كل ابتكار تكنولوجي يؤدى إلى تغيير العلاقة بين الإنسان وبيئته من حيث المسافة أو المدى أو الشكل، ضرب ماكلوهان مثالا بالسكك الحديدية، فقال إنها لم تبتكر مفهوم المواصلات او الحركة والانتقال من مكان لآخر ولكنها وسعت قدرة الإنسان على الانتقال وأدت الى ظهور المدن والتوسع الاقتصادي.

اقترح ماكلوهان من نصف قرن قواعد عامة لفهم الاتصال بين البشر. ومع أنه توفى قبل التقدم المُبهر فى مجال الاتصالات والشبكات الإلكترونية، فإنه كان مُدركًا لها وكتب أن آثار وسائل الاتصال الإلكترونية وتداعياتها الاجتماعية والسياسية، سوف تؤدى الى مزيد من ترابط مناطق العالم مهما بعدت المسافات بينها وأننا نعيش فى قرية عالمية. كتب أن العالم الجديد يتوقف فيه الزمن، وتختفي فيه المسافات، وكان ذلك قبل أن تظهر كلمة العولمة أو الأشكال المختلفة لوسائل التواصل الاجتماعى التى نعرفها الآن.

ونجد فى كتاباته إشارات إلى التفاعُل بين المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، ونتائجه مما يجعله أحد رواد مفهوم مجتمع المعلومات.

* نقلًا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الثورة والمصالحة في الذاكرة التاريخية للجزائر

يتسم تاريخ الجزائر بعدة سمات يجعله فريداً بين كل الدول العربية. ففضلاً عن الاحتلال الفرنسى المبكِّر لها عام 1830، فإنه تم ضمها قانونيًا لتصبح إحدى مقاطعات

مصر في المؤشرات العالمية للحوكمة

أصدر المعهد القومى للحوكمة والتنمية المستدامة فى مصر تقريرًا فى يناير 2021 بعنوان تصنيف مصر فى مؤشرات الحوكمة. وهو عمل يستحق الاحتفاء به ومناقشته. وهذا

مصر والانخراط الفعال مع إدارة بايدن

أعتقد أن كثيرًا من دول العالم تقوم الآن بمراجعة لسياساتها الخارجية فى ضوء التوجهات الجديدة لإدارة الرئيس الأمريكى بايدن التى ظهرت خلال حملته الانتخابية،

المصري بطرس غالي وتطوير الأمم المتحدة

احتفل العالم بالأمس - 24 أكتوبر 2020 - بـالذكرى الخامسة والسبعين لولادة الأمم المُتحدة. ففي هذا اليوم من عام 1945، تم استكمال النصاب اللازم لتصديقات المجالس