هذا آخر يوم فى إجازة عيد الأضحى المبارك. قضيتها فى مراجعة ما كان. والاستعداد لما سيكون. قبل كل هذا وبعده أحوال مصرنا الغالية. حاولت الهروب من الأخبار عن موجة ثانية من الوباء قد تضرب العالم.
لن أُتعب عقلك فى التجول مع الأرقام التى ترهقنا عن الإصابات والوفيات التى أستهولها مهما كانت ضئيلة. فلا شيء يساوى أن يفقد الإنسان حياته إبتداء من الحوادث اليومية وصولاً للوباء. عموماً لنكن قدريين ونقول إنه القضاء والقدر. فكل إنسان فى لحظة ميلاده يُدوَّن وقت وفاته باليوم والساعة والدقيقة.
أحاول الهروب المستحيل من الوباء. ولكن أينما وليت وجهك ستجده أمامك. أخباره، حكاياته، الشكوى منه. هل أقول إنه أسلمنا لتجارة الخوف؟ والناس بطبيعتهم خاصة كبار السن مثلى خائفون جاهزون. وليسوا فى حاجة لمن يُخوِّفهم حتى بهذا الوباء.
فى كل صيدلية تدخلها - وأتمنى لك ألا تُهوِّب نواحى الصيدليات - ستجد ركناً مستحدثاً فى المدخل. إما على يمينك أو على يسارك. فيه الجديد فى دنيا المطهرات وكل ما يساعدك على النجاة من الوباء. رغم أنها من المفروض أن تكون موجودة سواء هناك وباء أو أننا تخلصنا منه.
ما أهرب منه أجده أمامى كأنه قدرى. أقرأ أكثر من 17 مليون مصاب بكورونا حول العالم. وكأننا دخلنا سباقات الموت. فها هو الوباء يُخرِجُ ألسنته إن كانت له ألسنة لنا. فقد نجح فى أن يودى بحياة مواطن أمريكى كل دقيقة. وأتعجب من الأحوال. وأقول: أليست هذه البلاد على قائمة دول العالم الأول؟ الذين يباهون أنفسهم بالتقدم ويثيرون خيالنا بنمط الحياة الذى يعيشونه.
لدرجة أنهم أوجدوا فى العالم صرعة اسمها الهجرة لهناك. فلماذا تمكن الوباء منهم هكذا؟ وأصبحوا فى حالة سباق يومى مع الصين. فاليوم إصابات الصين تسبق غيرها، وغداً تأخذ منها أمريكا هذا السبق. يُخيَّل إلىَّ وهذا مجرد اجتهاد شخصى قد يخطئ وقد يصيب. وربما كان نصيبه من الخطأ أكثر من الصواب: أليس المجتمع الأمريكى مجتمعاً من المهاجرين؟.
أقرأ فى أدبياتهم خاصة الروايات الأمريكية للرعيل الأول من كُتّاب الرواية فى بلادهم. والذين أسسوا هذا الفن عندهم. حتى أحدث من يكتبون الآن أن الأمريكى القُح لا وجود له. وأنهم جميعاً هاجروا إلى هناك. وأتوقف عند هذا الحد لأننى من أبناء العالم الثالث ومنهم يأتى أغلب المهاجرين، إن لم يكن جميعهم.
لأعد لبلادى وحتى الصحف الأجنبية تؤكد أن الإصابات فى مصر تراجعت. بل إن بعض المحافظات أعلنت أن الإصابات فيها صفر. ولن أدوِّن أسماء ثلاث محافظات أكد مسئولوها أنه لا كورونا عندهم على الإطلاق. مع حُلمى أن كل ما يقولونه دقيق وصريح.
وإن كان هذا الكلام قد خلق حالة من التراخى فى الشارع. فمن يرتدون الكمامات يتراجعون. وحتى من يضعها على وجهه فهو يبعدها عن أنفه وفمه. وأتساءل: ما جدواها إذن؟.
علينا أن نردد العبارة التى قالها رئيس الحكومة الدكتور مصطفى مدبولى: إن الإنتكاسة واردة. وبالتالى فإن الإجراءات الإحترازية قد نجد أنفسنا مضطرين للعودة لها مرة أخرى. وكل ما قد يتصوره البعض من مضايقات. فهل هناك أهم من الحرص على الحياة؟ وإن كان هذا الحال الذى يراوح مكانه لا يمنع من يستفيدون من أى أزمة أو محنة من ممارسة ما يقومون به.
ترى طبيباً أو صيدلياً. فيأخذك على جنب ويهمس لك باسم دواء فعَّال للوباء. تقول له وما حاجتى له؟ يرد عليك أن الحذر واجب. وأنه لولا الاحتياط لحدث لنا ما لا يُحمد عقباه. من باب المجاملة فقط تطلب منه أن يخرج ورقة ويدون لك اسم الدواء قد تحتاجه فى يوم من الأيام. ولا تستهول سوى سعره. وطريقة الحصول عليه.
إياك أن تقول إن إصابات كوفيد 19 تواصل تراجعها فى مصر. شهد بذلك الجميع. لأنه قد يرى فى كلامك قدرٌ من عدم الإحاطة بالأمور. وأنهم الأطباء والصيادلة أدرى بحقيقة الأمر. السلامة من الوباء الفتَّاك لا يطلبها الإنسان لنفسه. فالخلاص الفردى لا قيمة له عندما يتهدد الخطر الجميع. بل إنه يدعو بها لكل الناس. فى مصر وجميع من هم خارجها.
أكتب ما كتبته رغم أن ثمة إنسان ما لا أعرفه يقابلنى أحياناً فى أحد الشوارع ليعاتبنى على أننى أتجاهل الحقيقة فيما أذهب إليه. وأقول له إن كلمة الحقيقة أكبر حتى من الخيال. فأنا لا أكتب عن الطب والصحة والوباء من أرضية التخصص بقدر ما يمكن القول إننى أكتبه وأنا جالس على مقاعد الهواة. ومن حقه أن يقبل ما أذهب إليه ومن حقه أن يُغفل.
أعترف أننى طوال الأسبوع الماضى أجمع مادة عن الدكتور محمد مشالى. الطبيب الذى أطلقوا عليه طبيب الغلابة والفقراء والمساكين. ينتمى لقرية ضهر التمساح تُكتب ظهر التمساح فى الأوراق الرسمية مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة. وهى القرية القريبة من قريتى. تفصلها عنها بعض القرى القليلة. لكننا أبناء خط واحد.
لم أره ولم أسمع عنه عندما كان حياً. وتلك عادتنا أننا ما أن يموت من كان يستحق منا الاهتمام به فى حياته حتى نوقف الكون لنكتب ونقول ونحكى عنه. هو يستحق أكثر مما كُتِبَ وما قيل. وجميع الإجراءات التى اتخذت بإطلاق اسمه على شارع هنا أو شارع هناك. ربما كان يجب أن نفعلها له وأكثر. ولكن ما المانع أن يكون ذلك فى حياته.
لماذا ننتظر حتى يرحل عن عالمنا ثم نتفرغ لاعتباره أهم من كان بيننا. وهو كذلك فعلاً. اعتراضى الوحيد الانتظار حتى يدهمه الموت.
هل كان هناك مانع أن نكرمه فى حياته؟ وأن نكتب عنه ونقول أقل من القليل مما قلناه بعد رحيله؟ لقد شاهدت صورة له وهو يكنس سلم العمارة التى توجد فيها عيادته. وعندما نعرف أنه طبيب يفعل هذا من تلقاء نفسه. فلا بد أن ننحنى له جميعاً، بشرط أن يتم ذلك وهو ما زال بيننا.
إنها عادتنا نحن أهل مصر: نقدس الموتى ونهمل الأحياء.
نقلا عن صحيفة الأهرام